غرفة العمليات5.. حين نام الرئيس

هناك لحظات في السياسة، تماما كما هو الحال في البحر، لا تحتمل أن يغيب الربّان عن جسر القيادة. لكن في خريف 1973، وبينما كانت المدافع تدوي في جبهات الشرق الأوسط، والسفن الحربية تتحرك في المتوسط، والصواريخ النووية في الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي تتهيأ للقفز خطوة نحو الإطلاق، كان الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بعيدا عن غرفة العمليات في البيت الأبيض… بعيدا جسديا، وبعيدا نفسيا، بل وبعيدا حتى عن الوعي.
على النقيض تماما من سلفه ليندون جونسون، الذي كان يجد في “Situation Room” ملاذه ومسرحه المفضل لإدارة الأزمات، كان نيكسون يكره تلك الغرفة كراهية تكاد توازي كرهه لوسائل الإعلام التي طاردته طوال حياته السياسية.
لم تطأ قدما نيكسون أرضها إلا نادرا، حتى حين كانت الطبول تدق لحرب قد تتحول إلى مواجهة نووية.
وفي أيامه الأخيرة، كما تكشف شهادة مساعديه، كانت الغرفة تشتعل نشاطا، بينما الرئيس معزول في مكتبه البديل، في حالة من الإدمان المزدوج، على الكحول والمنومات، غارقا في دوامة فضيحة “ووترغيت”.
في السادس من أكتوبر 1973، فاجأ المصريون والسوريون إسرائيل بهجوم منسّق في يوم “كيبور” المقدس، مستعيدين بعضا من شرف جريح منذ هزيمة 1967. وكانت الأخبار تصل إلى وزير الخارجية، هنري كيسنجر، في جناحه بفندق “والدورف أستوريا” في نيويورك، فتحرّك بسرعة: اتصالات بسفراء، ورسائل عاجلة، وأوامر لعقد اجتماعات طارئة في غرفة العمليات.
لكن ما لم يحدث كان هو الأهم: لم يتصل بالرئيس لمناقشة الردّ. وكأن المنصب الأعلى في الدولة بات منصبا شرفيا في تلك اللحظة.
كان كيسنجر، الوزير والمستشار في آن واحد، يعرف أن انتظار نيكسون لن يضيف شيئا. الرجل في فلوريدا، وربما في حالة لا تسمح له بترؤس اجتماع أزمة. وهكذا، بدأت إدارة الحرب من دون القائد الأعلى.
المشهد الأكثر صدمة لم يأتِ في بداية الحرب، بل في نهايتها، حين انزلقت الأمور في 24 أكتوبر إلى مواجهة مباشرة مع موسكو.
كان السوفيات يلوّحون بالتدخل العسكري لحماية حلفائهم العرب، وأجهزة الاستخبارات الأمريكية تلتقط إشارات عن سفن تحمل أسلحة نووية متجهة إلى الشرق الأوسط. وكما هو الحال في أي فيلم سينمائي عن الحرب الباردة، هذه اللحظة هي التي يدخل فيها الرئيس المسرح بخطوات حاسمة، إلا أن نيكسون كان قد “تقاعد” باكرا.
اجتمع كيسنجر وهايغ ورؤساء الأركان في غرفة العمليات، وخرجوا بقرار رفع حالة التأهب العسكري الأمريكي إلى DEFCON 3، أي أعلى مستوى وصلت إليه أمريكا منذ أزمة الصواريخ الكوبية.
كانت خطوة بحجم إعلان استعداد للحرب، اتُّخذت دون علم الرئيس، ثم وُقّعت رسائل باسمه وهو لا يدري.
لم يكن الأمر مجرّد حادث بروتوكولي، بل لحظة تكثّف فيها خطران متوازيان: على الجبهة الخارجية، مواجهة نووية محتملة مع قوة عظمى أخرى؛ وعلى الجبهة الداخلية، رئيس عاجز، معزول، فاقد للسيطرة على أدوات الحكم.
وفي قلب هذه المفارقة، ولدت معادلة مقلوبة: الدولة تدار رغم الرئيس، لا بواسطته.
والأدهى أن هذه اللعبة لم تكن من طرف واحد. فقد كشفت وثائق لاحقة من موسكو، أن الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف نفسه، في تلك الساعات، كان خارج المعادلة، منزوياً في منطقة ريفية، متأثرا هو الآخر بمزيج الكحول والأقراص المنوّمة.
كانت الحرب الباردة، في تلك الليلة، تُدار من قبل الصف الثاني لدى القوتين، بينما القائدان غائبان عن وعيهما.
هذه الحكاية ليست مجرد صفحة مثيرة من أرشيف واشنطن، بل هي مرآة لسؤال أعمق: ما الذي يحدث حين تتصدع القيادة في لحظة تتطلب أقصى درجات الحسم؟ وهل الأفضل أن يكون القائد حاضرا في قلب الحدث، بما يحمله ذلك من مخاطر الانغماس في التفاصيل وفقدان الرؤية، أم أن غيابه يفتح الباب أمام آخرين قد يديرون الأزمة بعقل أكثر برودة، أو ربما بعشوائية أكبر؟
كان كيسنجر يرى أن “متلازمة غرفة العمليات” التي أصابت جونسون جعلته يتوهم إمكانية إدارة العالم من تحت الأرض، فأراد نيكسون الابتعاد عنها. لكن الابتعاد، في أكتوبر 1973، لم يكن خيارا استراتيجيا مدروسا، بل عرضا مرضيا لرئيس ينهار تحت ثقل الفضائح والكوابيس.
اليوم، ونحن نعيش في زمن أزمات متشابكة، من الحروب الإقليمية إلى الأزمات المناخية والمالية، تبقى عبرة تلك الليلة صالحة: المؤسسات قد تصمد حين يتعطل رأس الهرم، لكن الثمن هو انتقال القرار إلى أيد غير منتخبة، وغير خاضعة للمساءلة المباشرة.
وفي السياسة، كما في الطيران، قد تهبط الطائرة بسلام رغم إغماء الطيار، لكن ذلك لا يجب أن يتحول إلى قاعدة.