غرفة العمليات 9.. الرئيس هو الرهينة

لم يكن أحد ليتصور أن غرفة العمليات في البيت الأبيض ستتحول، في يوم من أيام ربيع 1980، إلى مسرح لاجتماع فريد جمع رئيس الولايات المتحدة، جيمي كارتر، بزوجته روزالين، وكبار مستشاريه، ليستمعوا إلى عرض حول برنامج سري غامض اسمه “غريل فليم”.
يتعلّق الأمر بثمرة تعاون بين وزارة الدفاع الأميركية ووكالات الاستخبارات، ويدور حول فكرة أن بعض الأشخاص يمتلكون قدرات استثنائية تُعرف بـ”الاستبصار عن بُعد ” (remote viewing)، أي القدرة على “رؤية” أماكن أو أحداث لا يمكن الوصول إليها عبر الوسائل التقليدية.
لم يكن الأمر يتعلق بموازين الردع النووي أو تخطيط عمليات عسكرية في الحرب الباردة، بل بتجارب على استخدام قوى نفسية خارقة يُفترض أنها قادرة على كشف مواقع وأحداث لا تراها العين المجرّدة.
الرمزية هنا بالغة الدلالة. فكارتر، الذي وُصف دائما بالواقعية والرصانة، وجد نفسه محاصرا إلى درجة جعلته يطرق أبوابا غير تقليدية، بل حتى أبواب ما يشبه الخرافات و”الخوارق”.
تعود القصة إلى نونبر 1979، حين اقتحم طلاب ايرانيون السفارة الأميركية بالعاصمة الإيرانية طهران. وسرعان ما ارتبط الطابع العفوي الظاهر للعملية، بالتحوّل الذي فرضه موقف الخميني حين منحها شرعية دينية.
تحولت أزمة كان يُفترض أن تكون رمزية ومحدودة إلى حصار طويل امتد 444 يوما، وهو ما استنزف إدارة كارتر على كل المستويات: الإعلامية، والاستخباراتية، والانتخابية.
وتطلّبت الأزمة اجتماعات يومية في غرفة العمليات تحت إشراف مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض زبغنيو بريجنسكي، وتحول مسؤول شؤون الخليج والشرق الأوسط مجلس الأمن القومي الأميركي (NSC) غاري سيك، إلى “مصفاة بشرية” لآلاف الصفحات من التقارير.
كانت الإدارة الأمريكية تستحضر في تلك الأثناء قصة روزماري سميث التي وصفت بدقة موقع سقوط طائرة سوفييتية في الكونغو وهي جالسة في مكتبها بماريلاند، وقصة “نانسي س.” التي رأت “انفجارا مروّعا” ليلة كارثة “طبس”، تلك المنطقة الصحراوية في إيران التي شهدت الإنزال العسكري الفاشل للقوات الأمريكية الخاصة التي حاولت تحرير الرهائن، وواقعة ريتشارد كوين، الرهينة المريض بالتصلب المتعدد، الذي وصف أحد “المشاهدين” حالته المرضية بدقة قبل أن يطلق سراحه.
لقد كان الزمن زمن عجز سياسي، بعد فشل عملية “مخلب النسر” التي انتهت بمصرع ثمانية جنود أميركيين في صحراء قاحلة.
كان الرئيس كارتر صامتا ووقورا خلال ذلك الاجتماع، يتابع التفاصيل دون تعليق، بينما بدا على زوجته روزالين فضول كبير.
ووسط هذه الخيبة، حمل كارتر ورقة صغيرة كتب عليها كلمة واحدة: «Hostages?”، وسلّمها إلى ضابط البحرية الأمريكية جتيك ستيوارت، كأنه يقول له: “افعل أي شيء، حتى لو كان خارقا للطبيعة، لكن أخرجني من هذا المأزق.”
لم تكن أزمة الرهائن مجرد حدث عابر، بل تحوّلت إلى عدسة مكبّرة تكشف عجز القوة الأميركية في التعامل مع خصم غير متكافئ.
ففي مواجهة طلاب ثوريين مدعومين من مرشد ديني في طهران، وجدت واشنطن نفسها تستنزف يوميا مواردها السياسية والإعلامية والاستخباراتية.
لم يكن هناك وقت، ولا هامش للخطأ. وكل صباح جديد كان يعني استمرار الكابوس.
ومع ذلك، لم يكن العجز فقط في الميدان أو في دهاليز القرار، بل في إدارة الصورة السياسية. فقد رفع كارتر منذ اللحظة الأولى سقف الرهانات إلى حدّ ربط مصيره الرئاسي بمصير 52 رهينة.
وكما قال مساعد وزير الخارجية أنطوني لايك لاحقا: “من يريد شراء حصان لا يذهب إلى صاحبه ليقول له: هذا أجمل حصان في الدنيا وسأدفع أي ثمن.”
لكن كارتر فعل ذلك عمليا، حين جعل من تحرير الرهائن “القضية الأولى” أمام العالم كله. وكانت النتيجة أنه تحوّل هو نفسه إلى رهينة للأزمة.
لم ينهك الفشل الذريع لعملية “مخلب النسر” رئاسة كارتر وحسب، بل ألقى بظلاله الثقيلة على كل الإدارات اللاحقة. لقد صار “شبح طبس” حاضرا في أية غرفة عمليات تُناقش خيار التدخل العسكري.
لم ينس روبرت غيتس، الذي كان شابا يعمل إلى جانب مدير الـCIA ستانسفيلد تيرنر خلال الكارثة، أبدا مشهد المروحيات المتساقطة في الصحراء.
وعندما جاء دوره بعد ثلاثة عقود ليشارك في التخطيط لعملية اغتيال أسامة بن لادن في أبوت آباد، كان هاجسه الأول: “أريد مزيدا من المروحيات. لا أريد أن يتكرر سيناريو طبس”.
وفعلا، تحطمت إحدى المروحيات ليلة الهجوم، لكن الدرس المستخلص منذ 1980 أنقذ العملية من الفشل.
حتى في الصومال عام 1993، حين سقط 18 جنديا أميركيا في واقعة “بلاك هوك داون”، كان شبح طبس حاضرا. فالبيت الأبيض حاول يومها أن يترك القيادة للجيش، لكن سقوط القتلى جعل الغضب الشعبي والسياسي يرتد على الإدارة.
أنطوني لايك، الذي كان حينها مستشار الأمن القومي للرئيس بيل كلينتون، اعترف لاحقا بأن درس كارتر كان معقدا: لا يمكنك أن تجعل من أزمة مركزية مسرحا لرئاستك، لكنك أيضا لا تستطيع أن تهرب من المسؤولية إذا فشل التدخل.
إنها المفارقة التي كشفتها أزمة الرهائن: القوة العظمى ليست في العتاد فقط، بل في كيفية إدارة الرمزية السياسية للأزمات. قد تُحرر الرهائن بعد 444 يوما، كما حصل فعلا، لكن إذا حدث ذلك بعد أن يغادر الرئيس المنصب، فإن التاريخ لن يسجّل النجاح، بل الفشل.
عاش كارتر هذه الحقيقة بمرارتها، حين رأى الطائرات الإيرانية تُطلق سراح الرهائن في اللحظة نفسها التي كان يسلم فيها السلطة لخصمه رونالد ريغان.
أما التجارب الغريبة لبرنامج “غريل فليم”، فهي تكشف جانبا آخر من معضلة السلطة تحت الضغط: عندما تُغلق الأبواب، يصبح حتى اللامعقول قابلاً للتجريب.
رأى البعض في ذلك دليلا على مرونة التفكير، والبعض الآخر اعتبره علامة يأس. لكن المؤكد أن الأزمات الكبرى تضع القادة أمام امتحان عسير: إما أن يجدوا المخرج في السياسة الصلبة والخيارات الاستراتيجية، أو أن يتحولوا بأنفسهم إلى أسرى للحظة، مهما كان حجم سلطاتهم.
من غرفة العمليات زمن كارتر خرج الدرس الذي لم ينسه من جاء بعده: القوة الأميركية قد تتعثر، لكن الخطأ الأكبر هو أن يتحول القائد الأعلى من صانع قرار إلى سجين أزمة.