غرفة العمليات 4.. الصحافة تسبق البنتاغون!

حاولنا في الحلقات السابقة من هذه السلسلة، أن نتجوّل معا في دهاليز البيت الأبيض، بدءا من تلك اللحظة التي وُلدت فيها غرفة العمليات كاستجابة مباشرة لصدمة انكسار الجيش الأمريكي في خليج الخنازير (كوبا)، إلى لياليها الطويلة في ظل رئاسة ليندون جونسون، حيث صارت أشبه بعين لا تنام تراقب العالم من تحت الأرض.
كما تعرفنا على البدايات المرتبكة، وعلى كيف تحولت هذه الغرفة من مجرد مركز متابعة إلى قلب نابض لقرارات الحرب والسلم.
لكن ما سنشهده اليوم ليس مجرد اجتماع آخر أو أزمة عابرة. نحن أمام صباح من تلك الصباحات التي يضيق فيها هامش الخطأ إلى الصفر، ويصبح وزن الكلمات أثقل من وزن القنابل.
إنه صباح الخامس من يونيو 1967، اليوم الذي انطلق فيه أول استخدام “حقيقي” للخط الساخن بين واشنطن وموسكو، بينما كانت نيران حرب الستة أيام تشتعل في الشرق الأوسط.
قبل أن يرنّ جرس “الخط الساخن” لأول مرة بين واشنطن وموسكو في صباح ذلك اليوم، كانت الأخبار قد وصلت إلى البيت الأبيض عبر طريق غير متوقّع.
ففي نحو الثانية فجرا، أي قبل ساعات من تشغيل القناة، اتصلت الصحافية المخضرمة هيلين توماس من وكالة “يو بي آي” بتوم جونسون، أحد مسؤولي الاتصال في البيت الأبيض، لتبلغه بأن الحرب اندلعت في الشرق الأوسط.
حاول توم جونسون على الفور أن يتحقق من الخبر من غرفة العمليات، فجاءه الجواب: “لا توجد لدينا أي معلومات عن حرب”. وبينما كان يهمّ بإنهاء المكالمة معها، دوّى صوت الضابط المناوب في الخط الآخر: “الخبر العاجل يصل الآن”.
هكذا، سبقت الصحافة أجهزة الإنذار المبكر التي أنفقت عليها واشنطن المليارات، وأثبتت أن أسرع “الخطوط الساخنة” قد تكون أحيانا بين أذن الصحافي وفم المصدر، لا بين العواصم عبر الكابلات المطمورة.
لم يكن الرئيس ليندون جونسون قد أكمل قهوته حين رن الهاتف في جناحه الخاص. وعلى الطرف الآخر، وزير الدفاع بوب ماكنامارا يحمل خبرا لم يسمعه أي رئيس أميركي من قبل: “الخط الساخن مع موسكو جاهز… وكوسيغين في الانتظار”.
لم تُستخدم هذه القناة منذ إنشائها، وهي لم تكن قبل أربع سنوات ذلك الهاتف الأحمر الأيقوني كما يتم تصويرها عادة، بل آلة تلغراف بطيئة الطباعة، تشبه الفاكس، موصولة بآلاف الكيلومترات من الكابلات.
من داخل الكرملين، بدأ أليكسي كوسيغين، وهو بمثابة رئيس وزراء الاتحاد السوفياتي، يرسل أول رسالة “عملياتية”، بينما الطائرات الإسرائيلية بدأت تدك المطارات المصرية وتعلن بداية حرب الأيام الستة، والتي حبس فيها العالم أنفاسها خشية انتشا رقعة المواجهة.
كان نص الرسالة موجزا، لكنه مشحون بالتحذير:
“على القوى الكبرى أن تضمن وقفا فوريا لإطلاق النار… نأمل أن تمارسوا نفوذكم على إسرائيل، فذلك يخدم السلام”.
بالنسبة لجونسون، الذي كان يخوض مستنقع فيتنام، كان هذا التهديد بانفجار الشرق الأوسط أخطر بكثير: “المتاعب هناك أكبر بكثير من الحرب في جنوب شرق آسيا”، كما كتب لاحقا.
حتى في ذروة الأزمات، تجد المفارقات طريقها إلى الحضور. فقد سأل المشغل الأميركي نظيره السوفيتي عن الصيغة اللائقة لمخاطبة كوسيغين، فجاءه الرد: “رفيق”.
بدأ جونسون رسالته بـ”الرفيق كوسيغين”، ما جعل موسكو تتساءل إن كان يسخر منهم. لكن الموقف حُل سريعا لحسن الحظ، لكنه كان تذكيرا بأن الحروب قد تشعلها كلمة في غير محلها.
بدأت قصة هذا الخط عام 1960، حين كتب المحارب القديم، جِس غوركن، مقالا في مجلة “Parade” بعنوان “حرب بالخطأ؟”، حذر فيه من أن عطبا تقنيا أو سوء فهم قد يشعل حربا نووية، داعيا إلى وسيلة اتصال فورية بين القوتين العظمتين.
بقيت الفكرة معلقة حتى أزمة الصواريخ الكوبية، حين اكتشف كينيدي (الرئيس الأمريكي) وخروتشوف (الزعيم السوفياتي) أن رسائلهم تتأخر لساعات، بينما الصواريخ تحتاج دقائق للوصول.
عندها، تحولت الفكرة إلى مشروع عاجل، ودخل “الخط المباشر” الخدمة في 30 غشت 1963.
بدأت الرسائل الاختبارية بجملة إنجليزية تضم كل الحروف، فرد السوفييت بوصف شعري لغروب الشمس في موسكو. ثم تبادلوا لاحقا مقاطع من إنتاجات تورغينيف وتشيخوف الأدبية، وتجنب الأميركيون نص قصة “ويني الدبدوب” التي كانت موضوع تنافس ودعاية محمومة من الجانبين في ظل الحرب الباردة، خشية الإحراج.
صبيحة 5 يونيو، اكتشف ماكنامارا أن “الخط المباشر” لا ينتهي في البيت الأبيض، بل في البنتاغون! قال بذهول: “ننفق 80 مليار دولار على الدفاع، ولا نستطيع مد هذا الخط إلى هنا؟!”، ليأمر لاحقا بتركيب محطة إضافية وإرسال الرسائل إلى غرفة العمليات.
على مدى أيام الحرب، تبادل جونسون وكوسيغين عشرين رسالة عبر الخط، بينما كان المترجمون يتسابقون لنقل المعاني بدقة، والمختصة لويس نيفنز تعيد كتابتها على الآلة الكاتبة لتوزيعها على الحاضرين.
نادرا ما غادر جونسون غرفة العمليات تلك الأيام. حتى زوجته، ليدي بيرد، شعرت بثقل الضغط عليه، فذهبت إلى مطبخ البيت الأبيض، وساعدت الطباخين في إعداد البيض المخفوق، وحملته بنفسها إلى الرئيس وفريقه الغارق وسط الخرائط وشاشات الرادار.
لكن ذروة التوتر كانت صباح العاشر من يونيو. يومها وصلت رسالة كوسيغين عند الساعة 8:48 صباحا، وكانت تحذر: إذا لم تتوقف إسرائيل، فسيتدخل الاتحاد السوفيتي عسكريا.
تبادل الزعيمان، الأمريكي والسوفياتي، ست رسائل خلال ثلاث ساعات، ضغط كل منهما على حليفه، لكن دون كسر الجسور. وعند الظهر، وصل الخبر: وقف إطلاق النار بدأ.
كتب الرئيس جونسون لاحقا أن قيمة الخط الساخن لم تكن في السرعة فقط، بل في أنه أجبر القادة على المواجهة المباشرة واتخاذ قرارات فورية، مع ما في ذلك من مخاطر.
كان يعرف أن التكنولوجيا لا تعوض الحكمة، وأن تدفق المعلومات لا يغني عن البصيرة.
وحتى بعد عقود، ظل الخط رمزا للحظة نجا فيها العالم من الانزلاق إلى كارثة. وفي 2011، حين قرأ غورباتشوف بنفسه رسالة كوسيغين الأصلية في مكتبة جونسون، شعر الحاضرون بقشعريرة التاريخ.
لكن كما أثبتت مكالمة الصحفية هيلين توماس لتوم جونسون في الثانية فجرا، لتخبره قبل غرفة العمليات نفسها باندلاع الحرب، فإن أكثر أنظمة الإنذار تطورا قد تسبقها الصحافة، وأن الخطوط الساخنة لا تساوي شيئا إذا لم تكن العقول التي تستخدمها أكثر حرارة في الحكم والتقدير.