غرفة العمليات 2.. كينيدي وخليج الخنازير

ليس كل ما يصنع التاريخ يُبنى في الضوء. أحيانا، تُصاغ أخطر لحظات القرار خلف أبواب مغلقة، في غرف ضيقة بلا نوافذ، وفوق طاولات تعلوها أجهزة الاتصال وخرائط الصراعات، ووجوه شاحبة تصغي لما لا يقال بقدر ما تحلل ما يُقال.
هكذا وُلدت “غرفة العمليات” داخل البيت الأبيض الأميركي، ليس كقرار إداري مدروس، ولا كمشروع هندسي مخطط له سلفا، بل كاستجابة غريزية وملحّة من رئيس شاب كان لا يزال يتلمّس طريقه في دهاليز السلطة.
جون كينيدي، الذي دخل البيت الأبيض محمولا على وعود التجديد والحيوية، وجد نفسه في أول اختبار حقيقي يواجه كارثة سياسية وعسكرية مدوّية: غزو خليج الخنازير.
في ربيع عام 1961، أطلقت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية خطة سرية لغزو كوبا، عبر إنزال مجموعة من المنفيين الكوبيين المسلحين والمدرَّبين أميركيا على شواطئ “خليج الخنازير”، بهدف إسقاط نظام فيدل كاسترو في هجوم خاطف.
كانت العملية قد صيغت في عهد سلفه دوايت أيزنهاور، لكن كينيدي وافق على تنفيذها بعد أن اقتنع بأنها ستنجح بسرعة ودون تدخل أميركي مباشر. إلا أن كل شيء انهار خلال ساعات: القوات المهاجمة ووجهت بمقاومة شرسة، ولم تتلقَ الغطاء الجوي المتوقع، وتحولت العملية إلى هزيمة نكراء للولايات المتحدة.
لم تكن الأزمة، بالنسبة إلى كينيدي، مجرد فشل ميداني، بل كانت لحظة انكشاف كامل لرئاسة شابة أمام العالم. لحظة شعر فيها بأنه كان يُقاد بدل أن يقود، وأن المعلومات التي اتُّخذ على أساسها القرار كانت ناقصة أو مضلّلة.
من هنا، بدأ كينيدي يوقن بأن الرئاسة تحتاج إلى مركز دائم، وفوري، وآمن لتداول المعلومات واتخاذ القرار تحت الضغط، بعدما خالط تلك الهزيمة إحساس عميق بالخداع والعجز؛ فقد خذله مستشاروه، وضلّلته المؤسسة الأمنية، وتركوه مكشوفا أمام الشعب والعالم.
في لحظة نادرة من الانكسار، أدرك كينيدي أن مركز القرار الرئاسي يفتقر إلى ما هو أبعد من المكاتب الفخمة والرتب العالية: كان ينقصه مكانٌ موثوق، ومغلق، ومشحون بالمعلومة، يمكن أن يُدار منه العالم عندما تشتدّ العواصف.
من تحت رماد الخيبة إذن، بزغت فكرة غرفة لا تنام، ولا تخضع لبروتوكولات الزينة ولا لمجاملات السلطة، بل تحرس قرارات الرئيس عندما يصبح الزمن أضيق من أن يحتمل الانتظار.
حين انتهى كل شيء على شواطئ “خليج الخنازير”، لم يجد كينيدي في نفسه القدرة سوى على الغضب الصامت. لكنه تعلم درسا ذهبيا: لا تترك القرار للخبراء وحدهم، واطلب دائما المعلومة من مصدرها الأول، وبسرعة، وبدون رتوشات.
هنا بدأ الحفر. الحفر الفعلي في طابق تحت الأرض لإنشاء غرفة تجمع الخيوط كلها في نقطة واحدة. لكنها كانت أيضا حفرة رمزية، تحوي كل الشكوك التي بدأت تتسلل إلى عقل الرئيس بعد أن أدرك أن الرئاسة ليست فقط سلطة، بل ساحة صراع دائم مع الفوضى والتضليل والبطء.
اسمه غودفري مكهيو. وكان يلقب بـ”الإله” في البيت الأبيض. هو عسكري، فرنسي اللكنة، لامع، أنيق، وصديق لعائلة كينيدي حتى قبل البيت الأبيض. لكنه لم يكن مجرّد مساعد.
كان هذا هو من قدّم للرئيس كيندي، في ربيع 1961، وثيقة داخلية من سلاح الجو الأميركي، تتحدث لأول مرة عن فكرة “غرفة العمليات اليومية”، وتوصي بإنشائها لمراقبة الحرب الباردة.
بعد أيام فقط، اندلعت أزمة خليج الخنازير، وكانت الصدمة كافية لتحوّل الفكرة إلى أمر واقع.
كانت تلك الوثيقة واضحة: نريد غرفة دائمة، مزودة بأحدث تقنيات الاتصال والعرض، لها كفاءات عالية من مختلف الوكالات، لتكون مركزا لإدارة الأزمات، لا لتولي القيادة، بل لتوفير المعلومة في وقتها.
لم يكن حدث خليج الخنازير مجرد فشل عسكري، بل كان كابوسا إداريا: خطوط هاتف غير آمنة، وأوامر تنقل عبر الأبواب، واجتماعات تقرر مصير عمليات حربية دون تلقي معلومات حقيقية.
كان الرئيس يقرأ “ملخصات عن ملخصات”، بينما القوات الأمريكية تُسحق على الأرض.
من هنا وُلدت الفكرة: غرفة تجمع المعلومة، وتوحّد القنوات، وتسمح للرئيس بأن يكون هو من يقرأ، لا من يُقرأ عليه.
في قبو الجناح الغربي، في ما كان سابقا ممرا ضيّقا أو قبوا للبولينغ، بُنيت الغرفة الأولى، في أسبوع واحد فقط، بأمر مباشر من كينيدي وبدفتر شيكات طارئ.
لم تكن مثالية، بل وُصفت في أولى مذكرات مساعدي الرئيس بأنها “كوخ ريفي غير مريح”، لكن كانت تلك بذرة المركز العصبي الأخطر في العالم.
الغريب أن كينيدي نفسه، رغم أنه أمر بإنشائها، لم يكن يدخلها كثيرا. مساعدوه هم من كانوا يديرون الاجتماعات اليومية فيها، بينما يكتفي هو بالتقارير.
في إحدى المرات، وصفها بأنها “زريبة”، ما دفع مستشاره الأمني إلى طلب توسعتها من فرط الاكتظاظ.
رغم ذلك، كانت الغرفة تؤدي وظيفتها: لا تتخذ القرار، بل توفر المادة الخام لاتخاذه. بمهمة تقنية، استخبارية، إدارية، لكنها حاسمة.
خلف هذا السرد التاريخي، هناك ما يُهمّنا كصحافيين ومواطنين من دول لم تبن بعد غرفة عمليات واحدة لتدبير أزماتها.
حين خسر كينيدي معركة ضد دولة صغيرة، لم يبحث عن أكباش فداء، بل بادر إلى بناء نظام معلومات يمنعه من ارتكاب الخطأ نفسه مرتين.
في المقابل، كم من دولة اليوم تفشل مرات ومرات، دون أن تبني حتى أرشيفا لتجاربها؟
غرفة العمليات، كما تبلورت في هذا الفصل الأول من كتاب “غرفة العمليات: القصة السرية للرؤساء في أوقات الأزمات”، لم تكن فقط جهازا هندسيا، بل كانت تجسيدا لفلسفة جديدة في الحكم: أن تكون على اطلاع أفضل مما كنت بالأمس، حتى لا تُفاجأ غدا.
ما الذي نستفيده من هذا الدرس؟
في دولنا، حين تفشل سلطة ما في تدبير أزمة، غالبا ما تختار التعتيم بدل التحديث، وتلجأ إلى قمع الأسئلة بدل تحسين أنظمة الإنذار المبكر.
لكن غرفة كينيدي تقول العكس: إن فشلت، فابدأ من المعلومة. وأنشئ مخزنك الذكي، قبل أن يأتيك الانفجار من الباب الخلفي.