عيد قلّة الشغل

في هذا اليوم الأممي، فاتح ماي 2025، تتزاحم العناوين، ويضيع المعنى بين سطور العاجل والمثير، وتبدو بعض الأحداث، رغم تباعدها الجغرافي واختلاف سياقاتها، كأنها شذرات من لوحة واحدة.
سنعلّق اليوم على أربع وقائع متفرقة في الظاهر، لكنها تعبّر في الجوهر عن حال عالم تتنازعه الحقائق والذرائع، وتختلط فيه الواقعية بالاستعراض، وتتصارع فيه الشعوب مع حكوماتها على تفسير البديهيات.
من تسجيلات جمال عبد الناصر التي فجّرت جدلا عقيما حول مفهوم القيادة، إلى مئة يوم أولى من ولاية ثانية لترامب تكشف أن الرجل تحوّل من ظاهرة إلى قاعدة، إلى القصف الإسرائيلي لسوريا بذريعة حماية الأقليات، وصولا إلى “عيد الشغل” في بلد تتراجع فيه فرص الشغل…
واقعية عبد الناصر
أعدت الاستماع للتصريحات المنسوبة لجمال عبد الناصر عدة مرات، وبكل وضوح، الرجل لم يقل ما يستحق كل هذا الذهول المفتعل واللغط الانفعالي الذي رافق تسريبها.
الرئيس المصري السابق، وهو يتحدث إلى مستشاريه أو قادة عرب من الحلقة الضيقة، لم يُنكر حقوق الفلسطينيين، ولم يُعلن عداء للقضية، بل عبّر، بأسلوب مباشر وصارم، عن واقع الإكراهات التي كانت تحيط به كقائد دولة، مسؤول عن الملايين من المصريين، وعن توازنات داخلية وإقليمية لا تدار بالشعارات، بل بالتقدير الدقيق لميزان القوة والفرصة.
الحديث عن الواقعية السياسية في عالمنا العربي ما زال، للأسف، من الطابوهات. ويبدو أن بعض من اعتادوا رفع الشعارات أكثر من خوض المعارك، لم يغفروا لعبد الناصر أنه كان يقول لهم: إذا كنتم تؤمنون بأن الحرب ضد إسرائيل ضرورة عاجلة، فلتتفضلوا أنتم إلى الميدان، لا أن تدفعوا مصر وحدها نحو المحرقة. هذه ليست خيانة، بل تَحمّل للمسؤولية. ليست نكوصا، بل استيعاب للتاريخ والجغرافيا ومعطيات التوازن الدولي.
المشكلة الحقيقية ليست في هذه التصريحات، بل في أوهام التصنيف الثنائي للواقع: مع أو ضد، بطل أو خائن، مقاوم أو مستسلم. هذا التبسيط الشديد هو ما حوّل تاريخنا إلى ساحة شتائم لا سجال عقل. وهو ما يجعل أغلبنا يفضّل الاستماع إلى الخطاب لا فحص نتائجه.
لو كان عبد الناصر يبحث عن المزايدة لربما كسب قلوبا أكثر في زمانه، لكنه كان يعي أن من يحمل بندقية يجب أن يملأها أولا، ومن يعلن الحرب عليه أن يسأل عن الخريطة وعن الجبهة وعن الذخيرة.
السياسي الحقيقي لا يُختبر في حفلات الخطب ولا في ساحات المزايدات، بل في غرفة القرار حيث تمتزج الأخلاق بالضرورة، والمبادئ بالتكتيك، والنية بالوسيلة. وعبد الناصر، بهذه التصريحات، يُعيد تذكيرنا، ولو بعد نصف قرن، أن القيادة ليست بطولة كلام، بل حرفة الموازنة بين التمسك بالحق وتدبير الممكن.
ترامب.. مئة يوم من الفوضى
في الذكرى المئة لأيامه الأولى في ولايته الثانية، يُثبت دونالد ترامب أن ما كان يُعتبر في السابق مجرد شعارات انتخابية أو تغريدات مثيرة للجدل، قد تحوّل إلى سياسات فعلية تُعيد تشكيل ملامح النظام العالمي.
الرجل الذي كان يُنظر إليه كظاهرة عابرة، أصبح اليوم قوة تنفيذية تُطبّق رؤيتها دون مواربة، مستفيدا من غياب القيود التي كانت تُكبّله في ولايته الأولى.
منذ اليوم الأول، أطلق ترامب العنان لسلسلة من الأوامر التنفيذية تجاوزت 140 أمرا، متفوقا بذلك على أي رئيس أمريكي سابق في هذه الفترة الزمنية.
شملت هذه الأوامر إعادة تشكيل السياسات الداخلية والخارجية، من خلال إنشاء “وزارة الكفاءة الحكومية” بقيادة إيلون ماسك، والتي أفضت إلى تسريح عشرات الآلاف من الموظفين الفيدراليين، وتفكيك العديد من الوكالات الحكومية.
على الصعيد الدولي، تبنّى ترامب سياسة “أمريكا أولا” بشكل أكثر حدة، وأعاد إشعال الحروب التجارية، وفرض تعريفات جمركية جديدة، وأثار توترات مع حلفاء تقليديين مثل كندا والمكسيك.
كما أبدى رغبة في توسيع النفوذ الأمريكي من خلال مقترحات مثيرة للجدل، مثل ضم كندا وغرينلاند، مما أثار قلقا واسعا بشأن استقرار النظام الدولي .
ورغم هذه السياسات المثيرة للجدل، تُظهر استطلاعات الرأي أن ترامب لا يزال يُولي اهتماما كبيرًا للرأي العام. فانخفاض شعبيته إلى 44%، وهو أدنى مستوى لرئيس أمريكي في هذه المرحلة منذ 80 عاما، يُشير إلى أن الديمقراطية الأمريكية، رغم التحديات، لا تزال تحتفظ بآلياتها الرقابية.
ما نشهده اليوم هو تحول الولايات المتحدة من دور “الشرطي العالمي” إلى قوة تُعيد تعريف مصالحها ومكانتها بطرق غير تقليدية. ورغم أن هذا التحول يُثير الكثير من التساؤلات والقلق، إلا أنه يُظهر أيضا مرونة النظام الديمقراطي الأمريكي، وقدرته على التكيف مع التحديات الجديدة، وإن كان ذلك بصعوبة.
إسرائيل تحمي الأقليات!
في مشهد بات يتكرر، تُبرر إسرائيل تدخلاتها العسكرية في سوريا بحجة حماية الأقليات، وهذه المرة تحت ذريعة الدفاع عن الطائفة الدرزية. فأمس الأربعاء 30 أبريل 2025، شنت إسرائيل غارات جوية على منطقة صحنايا جنوب دمشق، مستهدفة جماعات متطرفة زُعم أنها كانت تخطط لهجمات ضد الدروز.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: منذ متى أصبحت إسرائيل حاميةً للأقليات في المنطقة؟ تاريخيا، لم تُعرف إسرائيل بدعمها للأقليات، بل على العكس، تورطت في سياسات تمييزية ضد الفلسطينيين داخل أراضيها.
استخدام حماية الدروز كذريعة يبدو محاولة لتبرير تدخلات عسكرية تخدم مصالح استراتيجية أوسع، مثل تقويض النفوذ التركي في سوريا، أو منع إعادة تمركز الجماعات المسلحة بالقرب من حدودها.
الطائفة الدرزية في سوريا، التي تعيش في مناطق مثل السويداء وصحنايا، لها تاريخ طويل من التعايش والتحديات. وفي خضم الصراعات الحالية، تسعى هذه الطائفة لحماية نفسها من دون أن تكون ورقة في لعبة القوى الإقليمية.
الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في سوريا، الشيخ حكمت الهجري، أكد في تصريحات سابقة أن تسليم السلاح أمر مرفوض حتى يتم تشكيل دولة مدنية تضمن حقوق الجميع.
لكن التدخل الإسرائيلي الأخير يثير تساؤلات حول نواياها الحقيقية. هل هو حقا لحماية الدروز، أم أنه استغلال لظروفهم لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية؟
في النهاية، حماية الأقليات يجب أن تأتي من خلال دعم استقرار الدول وتعزيز حقوق الإنسان، وليس من خلال غارات جوية تزيد من تعقيد الأوضاع وتفاقم المعاناة.
ترى من تكون الأقليات التي تتضمنها قائمة إسرائيل كذرائع لضرب الدول واستهداف قدراتها العسكرية والعلمية والاقتثادية؟
عيد الشغل… بلا شغل
حلّ عيد الشغل في المغرب هذا العام، وسط أجواء يغلب عليها طابع الزيف والتناقض، حيث تتباين التصريحات الرسمية مع الواقع المعيشي للمواطنين.
الحكومة، التي وعدت بخلق مليون فرصة عمل، تواجه الآن انتقادات حادة بسبب ارتفاع معدلات البطالة.
وفقًا للمندوبية السامية للتخطيط، ارتفع معدل البطالة إلى 13.3% في نهاية عام 2024، مع زيادة عدد العاطلين إلى 1.638.000 شخص، بزيادة قدرها 58 ألفا مقارنة بالعام السابق.
الوعود الحكومية تبدو بعيدة عن التحقيق، خاصة في ظل غياب نمو اقتصادي قادر على خلق الثروات والوظائف.
القطاع الفلاحي، الذي يُعتبر من أكبر مشغلي اليد العاملة، فقد 137 ألف وظيفة بسبب الجفاف الذي استمرّ للعام السابع على التوالي. كما أن البرامج الحكومية مثل “أوراش” و”فرصة” لم تحقق النتائج المرجوة، حيث وصفها خبراء بأنها ترقيعية وتفتقر للرؤية، مما أدى إلى إهدار الوقت والمال دون تأثير فعلي على سوق الشغل.
النقابات، من جهتها، تبدو عاجزة عن تقديم بدائل حقيقية، تحركاتها تقتصر على احتجاجات موسمية لا تُفضي إلى حلول ملموسة.
في ظل هذا الواقع، يتحول عيد الشغل إلى مناسبة للتذكير بالوعود غير المنجزة، ويُسلط الضوء على الحاجة الملحة لإصلاحات اقتصادية جذرية تُعيد الثقة للمواطنين وتُحقق العدالة الاجتماعية.
إن الاحتفال بعيد الشغل يجب أن يكون فرصة لتقييم السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وليس مجرد مناسبة لخطابات جوفاء.
المواطن المغربي يستحق أكثر من وعود لا تُنفذ، ويحتاج إلى إجراءات فعلية تُحسن من ظروفه المعيشية وتُوفر له فرص عمل حقيقية.