story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

عيدنا المسروق

ص ص

ها قد مرّ عيد الأضحى دون أضاحي، وبات النقاش حول الأسباب والحيثيات دون أثر على الحياة الاجتماعية، ولم يعد هناك خوف من الظهور كمن “يحرّض” (كأنها جريمة) على الذبح وشراء اللحوم.

لكن لا يمكن أن تطوى هذه الصفحة السوداء دون قول ما ينبغي قوله: لقد أدت السياسات الفلاحية المتّبعة منذ سنوات بالدولة إلى الإخلال بواحدة من أبسط وظائفها، وهي توفير حاجيات استهلاكية أساسية للمواطنين، كما جعلت وظيفة مؤسسة حيوية اسمها “إمارة المؤمنين”، في وضعية حرجة اضطرت معها لاستعمال سلطتها المعنوية لحثّ المغاربة على الامتناع بدل أداء شعيرة دينية بحمولة ثقافية واجتماعية خاصة.

وفوق هذا وذاك، مورست أشكال من “الحكرة” والاحتقار على المغاربة، بوصمهم ب”اللهطة” وتحويلهم من ضحايا سياسات عمومية فاشلة إلى مذنبين لأنهم أقبلوا على استهلاك كميات من اللحوم، لا تخرجهم بأي شكل من الأشكال من خانة أكثر شعوب العالم افتقارا للحوم في سلّة غذائهم.

لقد كنّا في هذا الركن اليومي من دعاة إلغاء ذبح الأضاحي في عيد هذه السنة، لإنقاذ المغاربة من شهوة الافتراس التي استبدّت بكائنات متعطّشة للدماء، تغذّت السنة الماضية على فقر الناس وكانت تستعد هذا العام لالتهام ما تبقّي من كرامتهم.

في بلد يُفترض أنه فلاحي، وفي ظل “مخطط أخضر” كلّف فرع اللحوم الحمراء فيه، حسب الموقع الرسمي لوزارة الفلاحة، قرابة 8 ملايير درهم إلى غاية 2018، وفي سياق حكومة تفتخر ليل نهار برؤية فلاحية شاملة، لم يجد ملايين المغاربة في عيد الأضحى سوى الغصّة بديلا عن الكبش، والدمعة عوض الشواء.

يستهلك المغربي خلال السنة حوالي 12 كيلوغراما من اللحوم الحمراء بمختلف أنواعها، بما في ذلك كبش العيد ب”دوارته” وقوائمه ورأسه المبخّر وقّديده و”كرداسه”… في مقابل معدّل عالمي يتجاوز 26 كليوغراما للفرد الواحد (لحوم البقر والأغنام والخنزير…).

بينما “يمخمخ” جارنا الإسباني أكثر من 70 كيلوغراما من اللحوم الحمراء كل سنة، دون أن يتجرأ أي من سياسييه على وصمه باللهطة.

لقد مرّ العيد بحلوه ومره، وأبان المغاربة من جديد عن صبرهم واستعدادهم للتضحية بأغلى وأهم لحطة احتفالية في السنة استجابة لنداء ملكهم، ولابدّ أن يجدوا من يكافئهم ببعض التأمل والتدقيق، وإعمال مبدأي المسائلة والمحاسبة.

ماذا حصدنا من مخطط المغرض الأخضر؟ هل تحسنت تغذية المواطنين؟ وهل ارتفعت مؤشرات الاستهلاك؟ وهل انتعشت المراعي والقطيع؟
كلا.

ما وقع هو العكس تماما، والنتائج معروفة: قطيع انهار بنسبة تقارب 40% حسب تصريحات رسمية، وأسعار لحوم تواصل ارتفاعها منذ خمس سنوات، ودعمٌ بالمليارات ذهب مع الريح، ومواطن حُرم من ممارسة شعيرة دينية هي من أخصّ مظاهر التديّن الشعبي، بينما يُتهم هو ذاته بـ”اللهطة” و”الأنانية” والجهل بظروف البلاد.

سبق لنا في هذا الركن أن قلنا إن قطيع الماشية اختفى كما تختفي الأموال العامة، في ثقب أسود اسمه “مخطط المغرب الأخضر”. وأثبتنا، استنادا إلى معطيات رسمية، ألا أحد قادر على شرح كيف تراجع عدد رؤوس الأغنام في بلد ضخّ المليارات لدعم المراعي والأعلاف والكسابة.

ورأينا كيف تحوّل الدعم الاستثنائي إلى كعكة، قُسّمت بين الكبار، في حين تُركت الأسر المتوسطة والفقيرة تكابد في الأسواق السوداء للأضاحي، ثم تُوبَّخ على الملأ لأنها “تُريد اللحم” في يوم العيد.

وفي النهاية ها نحن أمام دولة فقدت ليس فقط وظيفتها الاجتماعية، بل فقدت الحد الأدنى من الصدق السياسي.
كيف يُعقل أن يكون المواطن المغربي الذي يعيش في بلد فلاحي هو من بين أقل شعوب العالم استهلاكا للحوم؟

كيف نُفسر أن أبناء الفلاحين، لا يرون اللحم إلا في المناسبات بدعوى الجفاف، بينما تُصدر شركات مغربية آلاف الأطنان من البواكر والفواكه نحو أوروبا؟

بأي منطق تُبرر هذه الدولة مشروعها الفلاحي، إن كانت النتيجة أن يُصبح الاستهلاك الغذائي فيها لا يتجاوز ما تستهلكه دول فقيرة أو منهارة؟

إننا لا ننتقد فشلا ظرفيا، بل نُواجه نموذجا كاملا انهار أمام أعيننا. نموذج أخنوش الذي انطلق في 2008 وانتهى في 2025 إلى شعب “لا يأكل اللحم”. وفي خضم هذه المهزلة، يخرج علينا بعض مروّجي خطاب السلطة بلوم الناس لأنهم “ملهوطين على اللحم”.

والحق أن من لهط حق هذا الشعب في الغذاء، والكرامة، والشعائر، هو من يجب أن يُسأل ويُحاسب، لا الذين كسروا خواطرهم أمام مراع خاوية، وجيوب فارغة، ومخازن دعم امتلأت… لكن لغيرهم.

ما وقع لم يكن مجرد فشل في تدبير موسم، أو عجز ظرفي عن تأمين رؤوس أضاحي العيد. بل هو انكشاف دولة التي لم تعد قادرة على تأمين قطعة لحم لأسرها في لحظة عيد، وبالتالي لا تستحق لا لقب “اجتماعية” ولا حتى “دولة الرعاية”.

حين تصبح الدولة عاجزة عن ضبط الأسعار، أو حماية القطيع الوطني، أو تأمين أضحية العيد حتى عبر الاستيراد، فهي لم تعد دولة، بل آلية لإنتاج الهشاشة وإعادة توزيع الألم.

كيف يمكن لدولة، صرفت أزيد من 100 مليار درهم تحت مسمى “المخطط الأخضر”، أن تعجز عن توفير رؤوس غنم كافية، ثم تجرؤ أبواقها على تحميل المواطن مسؤولية “شهوة اللحم”؟
أين ذهبت أموال الدعم؟
من استفاد؟

ولماذا لم يُفتح تحقيق واحد رغم تواتر الاتهامات، حتى من داخل الأغلبية الحكومية نفسها؟

يا سادة، إن ما وقع كان عقابا جماعيا عن ذنب لم يتسبب فيه المواطن. ويجب أن نقولها دون مواربة: المخطط الأخضر كان غطاء لسرقة منظمة، لا لفشل بحسن نية. وما وقع في عيد الأضحى 1446 هجرية، ليس محطة عابرة، بل إعلان رسمي عن فشل النموذج الفلاحي المغربي، واستحقاق محاسبة سياسية وجنائية تبدأ من عزيز أخنوش، ولا تنتهي عند صديقي أو البواري.

عيد الأضحى لم يكن فرحة هذا العام، بل كان مرآة كاشفة للخلل العميق في العقد الاجتماعي. وإذا لم يكن العيد القادم موعدا للمحاسبة، فسيكون موعدا آخر مع الخذلان الوطني.