story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

سياسة صناعة الضجيج

ص ص

خلف مؤخرا الهجوم الذي شنته بعض وسائل الإعلام الفرنسية على الملك محمد السادس موجة واسعة من الردود في المغرب. انبرى كثير من المغاربة – صحفيين، سياسيين، وفاعلين على وسائل التواصل – للدفاع والانخراط في حملة مضادة، أحيانا دون الاطلاع الكامل على ما كُتب، أو دون محاولة فهم خلفيات هذا الخطاب الإعلامي الفرنسي.

هذه الظاهرة ليست جديدة. كلما صدرت تقارير أو مقالات من الصحافة الأجنبية – خصوصا الفرنسية – حول المغرب، تنطلق ردود أفعال غاضبة تتراوح بين الشجب والسب، أو تقديم خطابات وطنية حماسية، في حين يظل النقاش الجوهري غائبا: لماذا تُنتج تلك الصحافة مثل هذه الخطابات أصلا؟ ما هي أجندتها؟ ولماذا نتعامل معها بقدر من القداسة أو الخصومة المبالغ فيها؟

النقد هنا لا يوجه إلى حق المغاربة في الدفاع عن بلدهم ومؤسساتهم، فهذا أمر طبيعي. لكن الإشكال يكمن في الانخراط الأعمى: الدفاع حتى دون قراءة النصوص الأصلية، أو دون تحليل مضمونها وغاياتها. هكذا يتحول النقاش إلى مجرد رد فعل انفعالي، لا إلى نقاش عقلاني يستثمر الحدث لفهم العلاقة المعقدة بين الإعلام الفرنسي والمغرب.

والأخطر أن هذه الردود تُستعمل أحيانا داخليا كوسيلة لإعادة إنتاج خطاب “الاصطفاف الوطني” الذي يُلغي أي إمكانية للنقد الداخلي. فكل من يطالب بإصلاح أو تغيير يُتهم بأنه “يصطف مع الهجوم الخارجي”. وهنا نفقد القدرة على التمييز بين النقد الموجه من الخارج – بما له وما عليه – وبين الحاجة الموضوعية إلى الإصلاح من الداخل.

في الجوهر، الصحافة الفرنسية ليست محايدة ولا بريئة. لها أجندات سياسية واقتصادية، مرتبطة بمصالح الدولة الفرنسية وشبكاتها في المنطقة. لكنها أيضًا لا تُنتج خطابها في فراغ: أحيانا تلتقط ثغرات حقيقية موجودة في الواقع المغربي (قضايا حقوقية، ديمقراطية، فساد…) وتُضخمها بما يخدم مصالحها. السؤال هو: هل نرد بانفعال؟ أم نستغل الحدث لتقوية جبهتنا الداخلية ومعالجة مكامن الضعف؟

المطلوب اليوم ليس الاصطفاف وراء ردود متسرعة، بل بناء وعي نقدي مزدوج، وعي بخلفيات الإعلام الفرنسي وأجنداته الاستعمارية الجديدة. ووعي بضرورة مواجهة ما يُستغل ضد المغرب عبر إصلاحات داخلية حقيقية، لا عبر إنكار الواقع أو التلويح بشعارات الوطنية.

فالوطنية ليست أن نُهاجم كل من ينتقد، بل أن نملك الشجاعة لتمييز النقد المغرض عن النقد البناء، وأن نُعطي الأولوية لإصلاح بيتنا من الداخل. لأن أقوى رد على أي “هجوم خارجي” هو مجتمع قوي ودولة شفافة وإعلام مستقل، لا مجرد عاصفة من التعليقات الغاضبة.

قد لا يمر يوم في المغرب دون أن يتلقف الرأي العام “قضية مثيرة”، اعتقال ممثلة رفقة شخص متزوج، “عرس موسى”، هجوم على المنتخب الوطني أو على السكيتيوي و الركراكي، افتتاح ملعب جديد في الرباط… مشاهد مصنوعة بعناية أو مضخمة بوعي، تُلقى للرأي العام كطُعم، فيلتقطها بشغف، ويتجادل حولها أياما وليالي. آخرها في رأيي الجولة المكوكية للسيد وزير الصحة الذي طاف المغرب ليندهش مثلنا من هول الأزمة التي تنخر قطاع الصحة، وبدل ان ينتبه المواطنون إلى الإشكالات الحقيقية صبوا جام غضبهم على العاملين بالقطاع. وهذا لعمري هو غرض من هندس لخرجة الوزير.

لكن خلف هذا الصخب، تمر ملفات مصيرية بصمت مريب، قانون الانتخابات الذي سيعيد تشكيل الخريطة السياسية، القانون الجنائي، وكثير من الإجراءات الاقتصادية التي ستنعكس على جيوب المواطنين، مشاريع اجتماعية يفترض أن تحدد مستقبل التعليم والصحة والحماية الاجتماعية. لا ضجيج، لا نقاش، لا مساءلة. فقط تمرير هادئ تحت غطاء “إلهاء جماعي” مقصود أو على الأقل مُستثمر.

هذه ليست صدفة بريئة. إنها آلية ممنهجة لإفراغ النقاش العمومي من مضمونه، عبر إغراقه في التوافه، وتحويل المغربي إلى مستهلك أخبار فضائحية، بدل أن يكون فاعلا سياسيا يطالب بحقه في المعلومة والمحاسبة. كلما اقتربت استحقاقات كبرى أو ملفات حساسة، تنفجر فجأة قضايا “أخلاقية” أو “رياضية” أو “فلكلورية” تُغطي على الأسئلة الكبرى.

ما معنى أن ينشغل الناس بـعرس موسى أكثر مما ينشغلون بمصير صندوق التقاعد؟ ما معنى أن يثير فيديو عنف لفظي ضجة تفوق نقاش القدرة الشرائية؟ ما معنى أن تختزل مشاكل قطاع الصحة في محاولة البعض تصفية حسابات مع طبيب هنا أو ممرضة هناك. الجواب بسيط: صناعة إلهاء تُغذيها وسائل إعلام تبحث عن الفرجة، ونخب سياسية مرتاحة لتبخر النقاش حول القوانين المصيرية.

المعادلة واضحة: كلما ارتفع ضجيج القضايا التافهة، كان ذلك مؤشرا على أن شيئا مهما يُمرَّر في الخفاء. ولأن الشعوب لا تُقاد بالقوانين وحدها، بل أيضًا بجرعات من التسلية والإلهاء، يتم تطبيع هذا المسار وكأنه قدر لا مفر منه.

كيف نكسر دائرة الإلهاء؟

الوعي النقدي هو السلاح الأول. لا يكفي أن نستهلك الأخبار، بل يجب أن نسأل دائمًا ما الذي يتم إخفاؤه؟

التربية الإعلامية ينبغي أن تدخل المدارس والجامعات لتُحصّن الأجيال من الانجرار وراء التوافه. والأهم، أن يتحول مطلب الشفافية إلى قاعدة: نشر مشاريع القوانين، فتح نقاشات عمومية حقيقية، محاسبة المسؤولين بدل مطاردة “الأحداث الثانوية”.

فقط حين نستعيد النقاش العمومي إلى أرضيته الحقيقية، يمكن أن تتحول السياسة من إدارة للانتباه إلى إدارة للمصالح العامة.

*عبدالاله ابعيصيص