سقوط كاستييخو
لمدينة الفنيدق القريبة من مدينة سبتة المحتلة في أقصى شمال المغرب، اسم آخر متداول في الأوساط الشعبية، وهو “كاستييخو” الذي يعني في اللغة الإسبانية “القلاع الصغيرة”.
وما جرى في هذه المدينة الصغيرة منتصف هذا الشهر (شتنبر 2024)، هو سقوط لآخر قلاع الكذب والبهتان والتضليل وتزييف الوعي.
لا يمكن أن نقبل بمواصلة الفرجة على هذا “السيرك” الذي يريد أن يٌفهمنا أننا مجرّد ضحية لمؤامرة أجنبية.
نعم هناك حملة منسّقة وموجّهة من الخارج ساهمت بشكل كبير في ما جرى، لكنه موجب آخر للمسائلة والمحاسبة.
أن يكون بيننا اليوم كل هذا العدد من اليائسين والضائعين ليس مؤامرة من الخارج ولا مكيدة، بل هو نتيجة مباشرة لسياسات واختيارات وقرارات داخلية هي أصل الداء ومنفذ تسلّل الأعداء.
وأن نكون اليوم لقمة صائغة للتآمر الأجنبي، ويكون أبناؤنا نهبا للحملات التضليلية التي تقتادهم بهذا الشكل المأساوي نحو ركوب رحلة الموت، فهو نتيجة مباشرة لسياسات التجريف والتشتيت التي مورست بشكل متعمد وممنهج ضد كل القوى المدنية والسياسية والإعلامية المستقلة.
أبناؤنا اليائسون يصفقون باب الوطن في وجهنا ويلعنون جبننا وخذلاننا لهم، وسكوتنا على عملية النهب والسرقة الممنهجين التي يتعرّض لها المغرب.
وزحف أطفالنا الذي افتتح دخولنا السياسي الحالي، إدانة لنا ولكل ما قبلنا مهادنته والتعايش معه من افتراس لحقوقنا الفردية والجماعية، في العدالة بمعناها المركب: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وصمت من يفترض فيها أن تكون حكومة نابعة من مركّبات مصلحية، والمولودة من رحم سياقات فاسدة، يعني إفلاس هذه المعادلة المختلة التي يراد لها أن تنقل كل خيرات وثمار هذه البلاد إلى سلةّ قلة متغطرسة ومتسلّطة على رقاب المغاربة، ودفع الغالبية الساحقة نحو صعود جبال الفنيدق والارتماء منها في بحر المجهول لمعانقة الموت.
على هذه المهزلة أن تتوقف، وعلى الضمائر اليقظة والقوى الحية لهذه البلاد أن تستيقظ من سباتها وتهبّ بكل ما أوتيت من حكمة وسلمية وتعقّل لإنقاذ سقف البيت قبل أن ينهار فوق رؤوس الجميع.
كيف يعقل أننا أمام مشاهد لقيامة حقيقية منذ أيام، بينما المتصدّرون للتدبير الحكومي غارقون في لعبة الدسائس وإعادة تدوير نفايات الفساد والرقص البذيء فوق أشلاء أحلامنا الفردية والجماعية؟
أحداث 15 شتنبر 2024 هي نقطة تحول تتطلب قراءة دقيقة للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد. وهي تكشف تراكماً لمجموعة من التحديات لا تعكس فقط فجوة بين الدولة والمجتمع، بل تكشف أيضًا عن تناقض صارخ بين ما تعلنه الدولة من مشاريع كبيرة وطموحات تنموية، وبين الواقع اليومي للمواطن الذي يجد نفسه محاصرًا بتحديات معيشية وحقوقية متعددة.
الصمت الحكومي في مواجهة الأزمات المتصاعدة يزيد من حدة الفجوة بين السلطة والمجتمع ويؤجج مشاعر الخوف واليُتم والتيه. وغياب التواصل الشفاف مع المواطنين يعمق حالة عدم الثقة ويخلق بيئة من الغموض، ويسهم في انتشار الإشاعات والمعلومات المغلوطة.
وإلى أن ترحل غير مأسوف عليها، فإن هذه الحكومة مطالبة بتبني استراتيجيات تواصل فعالة، تشرح فيها خططها بشكل واضح وتطمئن المواطن بشأن الخطوات المستقبلية. فالتواصل المفتوح والشفاف ليس مجرد رفاهية، بل هو حاجة ملحة لتجنب مزيد من الاحتقان.
لابد من معالجة سريعة لحالة الانسداد السياسي المتمثل في تراجع فرص المشاركة السياسية الفعالة، حيث يجد الشباب، على وجه الخصوص، أنفسهم خارج دائرة التأثير. ونسب المشاركة في الانتخابات الجزئية الأخيرة خير مثال على ذلك.
هذا الانسداد يولد شعورًا بالإحباط ويدفع الشباب إلى البحث عن فرص خارج البلاد، مما يعمق أزمة التماسك الوطني الذي بتنا نخاف عليه.
لقد انفلتت من أيدينا التناقضات التي يعيشها المجتمع المغربي، من خلال التفاوت بين المشاريع التنموية الكبرى التي تعلنها الدولة، وبين الواقع المعيشي للفئات الهشة. هذه المشاريع، رغم أهميتها، لم تنجح في تقليص الفوارق الاجتماعية بشكل ملموس، بشهادة الخطابات الملكية، وهو ما يزيد من شعور المواطنين بالظلم.
المطلوب اليوم هو تحويل هذه المشاريع الكبرى إلى أدوات لتقليص الفجوات الاجتماعية من خلال التركيز على التنمية المحلية، ودعم المناطق المهمشة والفقيرة، وضمان وصول خدمات أساسية مثل التعليم والصحة والسكن إلى الجميع.
إن سهولة التلاعب الخارجي بالوضع الداخلي تشير إلى ضرورة تقوية المؤسسات الوطنية وتعزيز سيادتها. وكل هذا يتطلب إصلاحات عميقة تستهدف القضاء على الفساد وتعزيز الشفافية، بحيث تصبح هذه المؤسسات ذرعا للمواطن يحتمي به أمام التحديات الداخلية والخارجية بكفاءة.
إن حرية الصحافة والإعلام ليست مطلبا ثانويا ولا ترفا، بل هي ركيزة أساسية لتحقيق الشفافية والمساءلة وإبقاء أعين المجتمع مفتوحة، والنفوس هادئة وواثقة. بينما يٌسهم تضييق الخناق على الصحافة والتعبيرات الحرة، سواء عبر التشريعات أو الممارسات القمعية، في تعميق الانفصال بين السلطة والمجتمع.
الإعلام والتواصل يا عباد الله يجب أن يكون وسيلة لنقل هموم المواطن ولعب دور الوسيط في تعزيز الحوار الوطني وتحويل المشاكل والاختلالات إلى فرص للتداول والترافع والبناء المشترك.
إن دعم الإعلام المستقل والتعددي، وضمان حق الصحفيين في ممارسة عملهم بحرية ودون خوف من الملاحقات القانونية، يشكل جزءًا أساسيًا من الحل، لأن إعلامًا حرًا وقويًا يساعد في فتح نقاشات مجتمعية حول الحلول الممكنة للأزمات المتعددة التي تواجه البلاد.
المطلوب اليوم هو نهج شامل يضم الإصلاح السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والإعلامي.
وهذه الإصلاحات لا ينبغي أن تكون تجميلية أو مرحلية، بل لابد لها أن تكون جوهرية وتركز على إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع من خلال تعزيز الحوار السياسي، وتوسيع نطاق الحريات، وضمان الشفافية والمساءلة في كل جوانب الحكم، ونزع الطابع المتوحش الذي بات يتخذه الاقتصاد وعالم التجارة والاستثمار.
إن مدينة الفنيدق التي لطالما كانت محصّنة ومحمية، تحولت اليوم إلى مسرح لمهزلة تعكس عبثية الوقوع بين تلاعب الأيادي الأجنبية والانسداد السياسي الداخلي.
لقد أصبحت كاستييخو رمزًا لـ “احتقار صريح” للمصالح الوطنية، حيث طغى الاستهتار بمصيرها على أية محاولة لإنقاذها أو الدفاع عنها، فكان “سقوط كاستييخو” إعلانًا مدويًا لفشل خطط كانت تبدو كبيرة وطموحة لكنها لم تكن سوى “تلاعب وضيع” بمستقبل الوطن.