story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

سفنج لي نعسّل ليك!

ص ص

هناك مثل مغربي يقول “يلا كان صاحبك عسل ما تلحسوش كلو”، لكن يبدو أن هناك من اكتشف عسل السلطة وقّرر أن يلحسها بالكامل ويلتهم معها العسل والنحل.
المقتضى الذي جرى تمريره في مشروع القانون المالي باقتراح من فرق الأغلبية الحكومية (زعما زعما)، والقاضي بخفض الرسوم المفروضة على العسل المستورد، من 40 في المئة إلى 2.5 في المئة، هو بمثابة شهد مثقل بالعسل بنكهة المال العام الحرّ والخالص.
الأصوات القليلة التي خرجت من صفوف المعارضة البرلمانية لكشف هذه الفضيحة، تقول إن من بين أعضاء الأغلبية البرلمانية من يعتبرون أكبر مستوردي وموزعي العسل في المغرب، وبالتالي نحن أمام واقعة لا سابق لها في التاريخ الحديث، لمشرّعين يضيفون إلى القوانين ما يخدم مصالحهم وينعش تجارتهم ويعطيهم اليد العليا في السوق، على حساب آلاف النحالة البسطاء والمتوسّطين، والذين ابتلاهم الله في السنوات الأخيرة (أو بفعل فاعل الله أعلم)، بظاهرة غريبة تتمثل في هلاك النحل في الكثير من مناطق المغرب لأسباب غامضة.
اليوم يتبيّن أن كوارث عموم المغاربة هي فوائد في حسابات بعض المحظوظين، وأية فوائد. الجفاف والقحط ونفاذ المياه الجوفية بفعل الاستغلال المفرط لأغراض تجارية وتصديرية، تحوّل إلى دجاج يبيض ذهبا في حسابات بورجوازية صاعدة، شديدة الشبه بتلك التي اصطنعها المخزن في القرن التاسع عشر من خلال منحها امتيازات توريد وترويج مواد أساسية مثل الشاي.
التقيت قبل يومين عضوا قياديا في أحد الأحزاب التي شاركت في الحكومات السابقة، دون أن يقود أيا منها، وأخبرني كيف أن بعض كبار مستوردي العسل كانوا ينتمون إلى صفوف هذا الحزب في السابق، وكانوا يطلبون في كل مرة، بمناسبة عرض مشروع القانون المالي على البرلمان، خفض الرسوم الخاصة بالاستيراد، وكانت قيادة هذا الحزب تمتنع عن ذلك نظرا لتضارب المصالح الواضح في هذه القصة.
اليوم دارت الأيام، وانتقل بعض هؤلاء إلى أحزاب عندها الجدة والخالة والعمة في عرس المال والسلطة، وباتوا يمررون لأنفسهم تعديلا قانونيا يسقط رسوم استيراد العسل من 40 في المئة إلى لا شيء تقريبا.
تذكّرت وأنا أقلّب تفاصيل هذا الموضوع، أنني قرأت مؤخرا رسالة لأحد القراء، ممن يلتمسون تناول مشاكلهم وقضاياهم المعقدة، يحكي فيها معاناة مجموعة من الشباب قرروا الاستثمار في مشروع لإنتاج العسل، ليستحيل حلمهم إلى كابوس.
يتعلّق الأمر برئيس تعاونية رواد الأطلس الفلاحية مدينة قصبة تادلة، إقليم بني ملال، الذي يقول إنه قرر رفقة عدد من الشباب إقامة ست وحدات صناعية مصغرة بالمنطقة الاقتصادية لقصبة تادلة، منها وحدة عبارة عن دار للنحل والعسل.
يقول هذا الشاب المنتمي إلى إحدى أكثر مناطق المغرب عرضة للنزيف الديمغرافي بفعل الهجرة غير القانونية، إن المشروع لم يواجه أية مشكلة مع المركز الجهوي للاستثمار أو باقي المؤسسات رغم طول الخطوات المتبعة، لكنه عندما قدّم طلبا للاستفادة من بقعة أرضية بمساحة 720 متر مربع، تمت المصادقة على الطلب عبر دورة المجلس الجماعي لمدينة قصبة، لكن بشرط دفع مبلغ إجمالي قدره 22 مليون سنتيم إلى جانب مصاريف متعلقة بمسطرة التفويت.
مبلغ يقول أصحاب المشروع إنهم عجزوا عن توفيره عبر القروض الموجهة في الأصل لتمويل الاستثمارات الشابة، ليصبح المشروع في حكم المستحيل.
لنقارن بين هؤلاء الشباب الساعين إلى فتح منفذ للأمل داخل بلادهم، وتوفير نشاط اقتصادي منتج لفرص الشغل والقيمة المضافة، مع من يجلس داخل مربع السلطة ويشرّع لنفسه كي يجني الملايير “الباردة” عبر امتياز الاستيراد دون رسوم تقريبا، وفرض منافسة لا يتحمّلها السوق الداخلي على منتجي العسل المحلي.
النقابة الممثلة لمحترفي إنتاج العسل في المغرب قالت إن الخطوة تعني إغراق السوق المغربي، أكثر مما هو حاصل حاليا، بالعسل الأجنبي. وهو ما يعني في النهاية حتمية إفلاس الشركات وتوقف نشاط التعاونيات التي تنتج هذه المادة الغذائية الأساسية، علما أن الكارثة مجهولة الأسباب التي وقعت في السنوات الأخيرة، أتت على أكثر من 70 في المئة من خلايا النحل.
أكثر من 36 ألف نحّال مغربي، وفقا لإحصائيات وزارة الفلاحة قبيل جائحة كورونا، مهددون اليوم بالخروج من السوق أمام منافسة العسل الذي سيتم استيراده خلال العام 2025 خاليا من أية رسوم. وإذا أضفنا هذا الإجراء إلى خطوة خفض الرسوم على منتجات دوائية يتم إنتاجها أصلا في المغرب، ما يعني إخضاع المنتوج الوطني لمنافسة غير مبررة، وما نشاهده يوميا من عمليات استيراد لمواد أساسية لم يكن المغاربة يحتاجون لأكلها من أيدي “البراني” في عز سنوات التخلف والقحط، مثل زيت الزيتون واللحوم الحمراء… نصبح أمام حالة هزال واستباحة للسيادة الغذائية، في وقت يفترض فيه أن نجني الثمار التي وعد بها مخطط المغرب الأخضر.
لنتصوّر اليوم وقوع كارثة وبائية شبيهة بجائحة كورونا، واتخاذ الدول لقرارات الإغلاق وانسداد قنوات التوزيع واللوجستيك العالمية، كيف سيكون حالنا في غياب المواد الأساسية التي يفترض في الدولة تشجيع إنتاجها محليا وحمايتها من الاستيراد غير المبرر؟
أخطر ما في القصة المأساوية التي نعيش فصولها حاليا، أن قرارات الإعفاء من الرسوم ومن الضريبة على القيمة المضافة عند الاستيراد، يصب في مصلحة قلة قليلة من المحظوظين، سواء في مجال استيراد اللحوم والمواشي أو الأدوية أو العسل كما هو الحال اليوم مع بضع وعشرين مستوردا لا أقل ولا أكثر.
أي أننا ودون أدنى شك، أمام تكرار لعملية خلق بورجوازية تجارية مصطنعة ومرتبطة مباشرة بالسلطة والماسكين بزمامها. عملية يعتبر المفكر عبد السلام المودن أفضل من قاموا بتفكيكها وشرحها، وكانت قد جرت في القرن 19، حين تدخّل المخزن مباشرة لتعيين من سيصبحون وكلاء تجاريين يحتكرون عمليات تصدير الحبوب وجلود وصوف المواشي إلى أوربا، في مقابل وكلاء آخرين حصلوا على امتياز استيراد الشاي والسكر والصابون والشموع… وتسويقها داخل المغرب.
لكن هناك فرق بسيط بين عملية اصطناع البورجوازية التجارية الانتهازية والكسولة، في الوقت الراهن مقارنة بالماضي.
ففي السابق كان المخزن يتدخل مباشرة لتعيين الوكلاء ويمنحهم الامتياز وحتى الرأسمال في بعض الحالات، ليتاجروا ويربطوا الاقتصاد بالنواة الصلبة للسلطة.
أما اليوم فإن هؤلاء المحميين باتوا يصلون إلى مراكز القرار بمسمى الانتخابات والديمقراطية، وكل ما تمنحهم إياه السلطة هو إطلاق اليد وتقييد المعارضين والخصوم.
العلاقة التي تربط بين هذه الكائنات الانتهازية التي تبسط اليوم سيطرتها على جل السلطات وتهدّد المغرب بالانهيار، تماما كما حصل نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 عندما تم تركيع المغرب من طرف قوى الخارج عبر توظيف هؤلاء الوكلاء المحميين، تلخّصها عبارة سمعتها يوما خلال ندوة فكرية من أستاذ جامعي منحدر من المنطقة الشرقية: سفنج لي نعسّل ليك!
تاكلوا فيه داكشي للي على بالنا وبالكم!