story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

رسالة الرسالة

ص ص

في زمن تُحاصَر فيه السياسة داخل قوالب مصلحية أو شعارات جوفاء، ويُخنق فيه النقاش العمومي بين هيمنة المال وسطوة الأمن، بدا أن “الرسالة” – ذلك الرمز البسيط الذي اختارته فيدرالية اليسار الديمقراطي شعارا لها – استعادت شيئا من معناها الأصلي خلال أيام الجامعة الربيعية الأولى التي احتضنتها مدينة الجديدة، وسعدت بحضور أشغالها أيام الجمعة والسبت والأحد الماضية (18-19-20 أبريل 2025).

الفكر والسياسة والأمل، تلك هي الرسائل الثلاث التي تشكّلت في أفق هذا اللقاء، الذي بدا كأنه ينتمي إلى زمن آخر، زمنٍ كانت فيه السياسة مرادفا للمعنى، وكان فيه الحزبي مفكرا، لا تاجرا انتخابيا، وكانت فيه الأحزاب تؤسس ولا تُدار.

حفلة سياسية شعرت فيها بنشوة خاصة وأنا ألاحظ كم التأم فيه من “العقلاء” الذين استضفناهم في برنامجنا “ضفاف الفنجان“، بدءا من صديقي وزميل دراستي سابق، ومايسترو هذا اللقاء منتصر الساخي، مرورا بمحمد الساسي ولطيفة البوحسيني ومحمد الأشعري، بينما أطل علينا عبر شاشة التواصل عن بعد، أحد قادة هذا الحزب الشباب، والذي يعتبر من أعضاء نادي برنامجنا “من الرباط”، الصديق عمر الحياني، بينما كانت صديقة أخرى هي “سارة سوجار” تنشّط إحدى ورشات الجامعة…

منذ الجلسة الافتتاحية، بدا واضحا أن ما تسعى إليه فيدرالية اليسار، لا يتعلق بالتنظيم أو التعبئة، بل بإعادة تأسيس مشروع سياسي يعيد الاعتبار للعقل والنقاش والمعرفة.

في كلمته التقديمية، قال الأمين العام عبد السلام العزيز إن الجامعة ليست فعلا موسميا، بل هي جزء من بناء جامعة شعبية تُزاوج بين الفكر والممارسة، بين النقد والتأطير، وبين الهوية والانفتاح.

ذلك ما جسدته فعلا مداخلات ثلاثة أيام من النقاش الحر. ولم تكن الندوات هنا لترديد ما يُقال في وسائل الإعلام أو في البرامج الحزبية، بل لتفكيك القواعد التحتية للأزمة المغربية.

وحين يكون السؤال هو: لماذا لا تُطعمنا فلاحتنا؟ ولماذا لا تُعبر ديمقراطيتنا عن إرادة ناخبيها؟ ولماذا تبدو السياسة غريبة عن الناس؟… فإننا نكون أمام مشروع مساءلة، لا أمام مجرد عرض للأفكار.

في مداخلة نجيب أقصبي، بدا أن الكلام لا يُقصد به التحذير، بل التفكيك الكامل لنموذج تنموي تأسّس على الريع والتبعية واستنزاف الموارد. وحين وصف السياسات المائية بـ”الإجرامية”، لم يكن يبحث عن الإثارة، بل عن تسمية الأشياء بأسمائها: دولة دعمت الزراعات الموجهة للتصدير على حساب الأمن الغذائي، وفلاحة اغتنت من احتياطي الفرشة المائية، ثم تترك المواطن في مواجهة الغلاء والتصحر.

وإذا كانت الدولة اليوم تعرض على الناس مشاريع تحلية المياه وكهربة السقي كحلول، فإن الجامعة أعادت صياغة المعادلة الحقيقية: لا سيادة بلا قدرة على إطعام الذات، ولا أمن مائي في ظل اختيارات مُملاة من السوق الدولية.

وهذا ليس خطابا إيكولوجيا، بل طرح سياسي بامتياز، يعيد ربط المسألة البيئية بالعدالة الاجتماعية، والاستقرار بالتوزيع العادل للثروات.

نفس الطابع التركيبي هيمن على النقاش القانوني والدستوري، الذي كشف خلاله الأستاذ عمر بندورو عن المفارقة الكبرى: دستورٌ مكتمل المعايير، يمارس في واقع منقوص الحريات.

دستور 2011، كما قال بندورو، لا تنقصه الشعارات، بل تنقصه الإرادة لتحويل النص إلى ممارسة. وهذا هو جوهر الأزمة المغربية: أدوات ديمقراطية بلا مضمون سيادي، ومؤسسات منتخبة بلا سلطة فعلية، وحرية صحافة في ظل تجريم التعبير باسم النظام العام.. مسار معطَّل، لا يمكن استعادته إلا بإرادة شعبية حقيقية تقطع مع وهم الاستثناء.

ولم يكن الطرح التقدمي معاديا للمرجعية الدينية، ضمن فعاليات الجامعة، بل استعادها كأفق للاجتهاد التحرري. في مداخلة لطيفة البوحسيني، حيث أعيدت قراءة النضال النسائي المغربي بوصفه تجربة فريدة في التأصيل للمساواة من داخل المرجعية الحضارية الإسلامية، لا ضدها.

هذه المقاربة النقدية، التي استحضرت اجتهادات فقهية منسية ووقائع تاريخية مغربية، لم تكن فقط عودة إلى الذاكرة، بل إشارة إلى إمكانيات التحديث التي تقطن في ثقافتنا نفسها، إذا ما نُظر إليها بعين التنوير لا بعين الهيمنة الغربية.

لقد بدت القضية النسائية، في هذا السياق، مفتاحا لفهم أعمق: أن المعارك الحقوقية في المغرب لا تُخاض ضد المجتمع، بل باسم هذا المجتمع، وفي مواجهات مزدوجة: ضد الدولة حين تمنع، وضد الخطابات المحافظة حين تضلّل.

الرسالة الأبعد مدى جاءت بمجرد افتتاح الجامعة من الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي، الذي خصّ المغرب بشكره لأنه –كما قال– الشعب العربي الوحيد الذي لا يزال يتظاهر من أجل غزة، رغم محاولات الإحباط والتطبيع الرمزي.

في كلمته التي ألقيت عن بُعد، أعاد المرزوقي الربط بين غزة والربيع العربي، قائلا إن ما نعيشه اليوم في فلسطين ليس مأساة منعزلة، بل آخر فصول تصفية ثورات الشعوب.

وإذا كانت غزة تُقصف اليوم لأن الديمقراطية هُزِمت في مصر وسوريا وليبيا، فإن المعركة ليست فقط ضد إسرائيل، بل ضد شبكة إقليمية تمول الاستبداد، وتغذّي الحرب، وتسعى إلى اقتلاع فكرة الحرية من جذورها.

لم تكن هذه الجامعة محاولة للبكاء على أطلال اليسار، بل ورشة لإعادة تأسيسه. ومن خلال الشعار نفسه –”إعادة التفكير في الديمقراطية”– بدا أن المشروع لا يتعلق بإعادة التموقع الانتخابي، بل بإعادة تعريف العمل السياسي في زمن الانكماش.

في هذا السياق، لم يظهر الحزب كهيكل تنظيمي فقط، بل كحاضنة ممكنة لتوليد المعنى، وربما هذا ما يفتقر إليه الفضاء السياسي اليوم: أن يعود إلى المجتمع، لا كوسيط انتخابي، بل كأداة فكرية ونضالية تُعيد ثقة الناس في إمكانيات التغيير.

إن “رسالة الرسالة” – هذا التلاعب اللغوي الجميل – لم يعد مجرد رمز حزبي، بل اختزال مكثف لجوهر ما طُرح في الجامعة: أن السياسة رسالة قبل أن تكون وظيفة، وأنها لا تستحق أن تُخاض إلا إذا كانت تحمل على الأقل وعدا بالمستقبل.

وهذا ما حاولت الجامعة قوله، بصوت هادئ، لكن حاد كالإبرة: لسنا بخير، لكن لا زلنا نمتلك القدرة على أن نفكّر، وحين نفكّر بحرية، نكون قد بدأنا أول الطريق نحو التحرر.