دفاعا عن سيادة المغرب

نشرت منصة “JFEED” التي تقدم نفسها بوصفها إعلاما مهتما بالشأن اليهودي، مساء الخامس من غشت 2025، مقالا صادما بعنوان مستفز: “هل تمثل عائلة معادية للسامية المغرب في واشنطن؟”.
وكان مضمون المقال أخطر بكثير من العنوان، إذ حمل اتهاما مباشرا للسفير المغربي في الولايات المتحدة يوسف العمراني وزوجته الكاتبة والطبيبة أسماء المرابط، بالسقوط في “معاداة السامية” و”التحريض ضد إسرائيل”، بل والوقوف ضد “توجّهات الدولة المغربية”.
ما يبدو في الوهلة الأولى مجرد “رأي صحافي”، يتضح بعد القراءة المتأنية أنه محاولة اغتيال معنوي ودبلوماسي ممنهجة، تستهدف ليس فقط شخص السفير وزوجته، بل النموذج المغربي برمته، بإجماعه ومكامن الخلاف حوله، وتحاول إخضاعه لمعايير يضعها لوبي إسرائيلي أصبح يعتبر نفسه وصيا على المغرب، وعلى خياراته وسيادته.
يوسف العمراني، دبلوماسي مخضرم، راكم تجربة طويلة في العواصم الكبرى، وحمل رسائل الدولة المغربية إلى أمريكا اللاتينية وأوروبا وإفريقيا، وكان في مساره الدبلوماسي قريبا من حزب وطني إصلاحي ومعتدل هو حزب الاستقلال.
سُجّل له منذ توليه منصبه في واشنطن أنه حرص، بل بالغ أحيانا، في التعبير عن التزامه بالاتفاق الثلاثي وبتعزيز الشراكة المغربية–الأمريكية في أبعادها كافة، بما فيها البعد المتعلق بالهوية اليهودية للمغرب، كما نص على ذلك الدستور المغربي لسنة 2011.
وظهر ذلك جليا من خلال مشاركاته المتعددة في أنشطة رمزية كبرى تحتفي بالتراث العبري المغربي في قلب المجتمع اليهودي الأمريكي.
فقد شارك في احتفالية “الهيلولا” بفلوريدا، حيث تحدث عن متانة الروابط بين الجالية اليهودية المغربية وبلدهم الأصلي، منوها ب”العناية الملكية” بالمكون العبري. كما حضر احتفالية “الميمونة” بواشنطن، وهي مناسبة للاحتفاء بالتعايش اليهودي الإسلامي، حيث ألقى كلمات احتفائية حرص فيها على إبراز التقاليد المغربية الفريدة في التعدد الثقافي والديني، وهو ما عبّر عنه لاحقًا في تدوينات عبر منصة “إكس”، اعتبر فيها أن روح التعايش المغربية تظل منارة أمل للمنطقة والعالم.
وفي ندوة نظمها تكتّل يهودي كبير شهر ماي الماضي فقط، صرّح العمراني بأن “المغرب يدرّس الهولوكوست في مناهجه الدراسية”، مثيرا تصفيقات الحضور، وهو تصريح، بصرف النظر عن دقّة مضمونه، لا يصدر إلا عن دبلوماسي يعي تماما ما تعنيه الذاكرة اليهودية في الثقافة السياسية الأمريكية.
فماذا يريد اللوبي الإسرائيلي من سفيرنا في واشنطن؟
المعطيات السابقة تجعل من اتهامه أو اتهام زوجته بالعداء للسامية مجرّد مناورة مفضوحة، غايتها ترهيب المسؤولين المغاربة وفرض الإملاءات على قرارنا السيادي.
أما زوجته، أسماء المرابط، فهي كاتبة وطبيبة وناشطة نسوية، تحمل إرثا نضاليا وفكريا يضيء أكثر مما يُحرق.
هي من أبرز الوجوه الداعية إلى قراءة إصلاحية لنصوص الإسلام، ومدافعة عن المرأة في منابر علمية عالمية. ونشاطها الفكري والثقافي مليء بالتظاهرات والحوارات مع مختلف الديانات، بل هي كانت وراء التواصل مع أول “حاخامة” يهودية، وهي الفرنسية “بولين بيب”، وإقناعها بالتواصل مع المغرب.
كيف يمكن القبول باتهامها بالتطرف، وهي التي ناضلت من داخل المؤسسات الدينية الرسمية الأكثر انفتاحا (الرابطة)، وانتقدت تكفير اليهود والنصارى في المناهج التعليمية؟
وكيف تصبح منشورات تعاطف مع غزة تهمة، في حين أن الإنسانية كلها تبكي أطفالا يموتون جوعا تحت الحصار؟
إن اتهام السفير وزوجته بمعاداة السامية، في بيئة أميركية، ليس تفصيلا بسيطا. بل هي تهمة لها مفعول السحر في إقصاء الأفراد وتحطيم المسارات المهنية. لكن حين تصدر من “مغربي” ضد دبلوماسي مغربي آخر، فالأمر يرقى إلى الابتزاز العلني لمؤسسات الدولة.
وكاتب المقال، مصطفى الزرغاني، ليس مجرّد ناشط مدني، بل يحبّ أن يظهر كرأس حربة في الجمعية المغربية الإسرائيلية للصداقة (MIFA)، وهو جزء من منظومة ضغط أميركية تعمل على فرض رؤية تُخضع المغرب بشكل كلي ونهائي.
فاتهامه للسفير وزوجته لا يعكس حرصا على مصالح المغرب، بقدر ما يعبّر عن خيبة شخصية أصابت البعض بعدم دعوتهم إلى حفل عيد العرش الذي نظّمته السفارة المغربية هذا العام، حسب ما أكدته مصادري الخاصة في واشنطن.
بل إن هذا الحفل الذي استقبل قرابة 750 شخصا، شهد حضور يهود من مختلف الجنسيات، وعدد من الحاخامات، وربما إسرائيليين حتى. لكن صاحب المقال لا يرضى حتى عن الهمّ الذي رضينا به، ويريد لنا همّه الخاص.
يوظف المقال سردية خطيرة في استهداف السفير المغربي وزوجته، تتمثل في الربط بين موقف السفير من إسرائيل ونجاح المغرب في ملف الصحراء. وكأن السيادة المغربية لم تعد تُبنى على توازنات القوى ومشروعية الموقف، بل على مدى انبطاح ممثليها للوبيات الضغط.
ويكشف هذا الهجوم تحولا نوعيا في أداء اللوبي الإسرائيلي، الذي لم يعد يكتفي بفرض أجنداته الناعمة، بل بات يوجّه إنذارات علنية للدولة المغربية: إما أن يكون ممثلوك “أصدقاء لإسرائيل”، أو نُشهّر بهم ونحرّك الإعلام ضدهم.
إنه انقلاب ناعم على السيادة الدبلوماسية، يمرّ عبر مقالات الرأي، ويُستكمل عبر الكواليس والدوائر السياسية التي يعلم الله وحده ما يواجهه الدبلوماسيون المغاربة فيها (…)، بما أن ما شاهدناه اليوم عبر هذا المقال وحده، يفيض غطرسة وعنجهية وابتزازا.
لكن الخطر ليس في هذا المقال فقط، بل في ما يعكسه من جرأة فاضحة على مقومات السيادة المغربية، والذي يمكن تجسيده في ثلاثة تهديدات واضحة ومباشرة:
• يفرض على المغرب ألا يكتفي بالتطبيع، بل عليه أن “يحب إسرائيل”، وإلا فالاتهام بمعاداة السامية جاهز؛
• يتم التعامل مع زوجة دبلوماسي باعتبارها مسؤولة عن مواقف شخصية لا علاقة لها بمهمة زوجها؛
• تُهدَّد صورة المغرب في الكونغرس والإعلام الأميركي لأن سفيره لم يُرض غرور شخص يريد أن يُدعى إلى العشاء فاستكتب من يهاجم.
مقالي هذا ليس دفاعا عن يوسف العمراني ولا عن أسماء المرابط، وهما شخصان عرفتهما شخصيا على مدى سنوات طويلة ولا أجد أي حرج في القول إنهما يستحقان الدفاع عنهما؛ بل هو دفاع عن الدولة المغربية التي أصبحت، كما يبدو، مطالبة بأن تقدم أوراق اعتمادها كل صباح للوبي صهيوني مغربي في واشنطن، لا يرى في المغرب إلا حديقة خلفية لدولة الاحتلال والإبادة.
نعم، المغرب طبّع، وأقام علاقات. لكن ما لا يجب أن نقبله، هو أن يتحول هذا التطبيع إلى استباحة سياسية، تُملى فيها شروط الولاء من أشخاص يتقنون العزف على نغمة “معاداة السامية” كلما شعروا بالتهميش.
ما حدث للسفير وزوجته جرس إنذار، ليس فقط للدولة المغربية، بل للرأي العام المغربي.
من يقبل بإهانة ممثليه تحت غطاء “الحرص على المصالح”، قد يستيقظ يوما ليجد أن القرار الوطني نفسه أصبح خاضعا لمزاج لوبي خارجي.