حالة نفسية!
مشهد مثير للدهشة والتأمل ذلك الذي خلّفته الجزائر في جلسة مجلس الأمن أمس الخميس 31 أكتوبر 2024، والتي خصصت للتصويت على القرار الجديد حول الصحراء، حين بدا ممثل الجارة الشرقية شديد الانفعال، وطلب الكلمة في البداية لتقديم التعديلات التي سبق لحاملة القلم، الولايات المتحدة الأمريكية، أن رفضت تضمينها في المسودة.
الدبلوماسي الجزائري بدا في حالة غير دبلوماسية بتاتا، حيث كان “يتنخصص” ويخاطب باقي الأعضاء بطريقة فيها الكثير من الشخصنة، وقال لممثلي الدول ال14 الأخرى، إنه يعرفهم بشكل شخصي ويعرف مقدار “الضغط” الذي تعرضوا له سواء في نيويورك أو في عواصم بلدانهم.
وبعدما صوّر ممثل الجزائر باقي الدول، بما فيها القوى الكبرى مثل الصين وروسيا، في صورة المفتقدين لاستقلالية قرارهم والعاجزين عن مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الوقت الذي امتنع أغلب الأعضاء عن التصويت على تعديلاته، فاجأ ممثل الجزائر رئيسة الجلسة بانسحابه رفقة الوفد الجزائري لحظة التصويت على مشروع القرار، مؤديا إلى حالة ارتباك وتأخر في إعلان النتيجة، ليتبيّن في الأخير أن عضوا غير دائم في مجلس الأمن الدولي اختار الغياب كليا عن هذه اللحظة.
بعيدا عن الدلالات والتأويلات الدبلوماسية لهذه الخطوة، وما تعبّر عنه من غياب الجدية والمسؤولية، ومن تحويل لمؤسسة دقيقة المساطر مثل مجلس الأمن الدولي إلى شبه “حلقية”… ينطوي هذا المشهد على مادة ينبغي إخضاعها للتحليل والدرس النفسيين، لأن ما جرى فيه يتجاوز كل حدود المنطق والتحليل القانوني.
نحن في النهاية أمام تتويج للحظة مخاض سنوي جديدة، عشناها هذه المرة على إيقاع التحوّل الكبير الذي عرفه الموقف الفرنسي، ووقوف الرئيس إيمانويل ماكرون فوق منصة البرلمان المغربي ليعلن دعمه لمغربية الصحراء.
تتويج جاء في صيغة قرار “يحافظ على جميع المكتسبات التي حققها المغرب، كما يدرج أيضا عناصر جديدة مهمة للتطور المستقبلي للقضية داخل الأمم المتحدة”، بتعبير بلاغ وزارة الخارجية المغربية، ويكرّس الإطار والأطراف وغاية المسلسل السياسي الذي تقوده الأمم المتحدة.
ويجعل الجزائر ملزمة، رغم انسحابها من جلسة أمس، بتحمّل مسؤوليتها وحضور جولات الطاولة المستديرة من جديد.
لكن علينا رغم ذلك أن نعترف أننا نجحنا في منع حدوث التراجع، لكننا لم ننجح فبي تحقيق التقدّم، رغم التعديل الطفيف الذي عرفته ديباجة قرار مجلس الأمن الدولي.
هذا الأخير يعتبر نصرا دبلوماسيا وإفشالا لمحاولات يائسة أصلا من جانب الجارة الشرقية، لكنه في حال لم يشهد أي تغيير ملموس في مثل هذه اللحظة من السنة المقبلة، فإنه لن يعني لنا أي نجاح، بل سيكون انتكاسة بما أن عضوين دائمين ووازنين داخل مجلس الأمن الدولي، وهما فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، يقولان لنا إنهما يعترفان بمغربية الصحراء، لكنهما لا ينقلان هذا الاعتراف إلى قرارات مجلس الزمن الدولي.
ونحن نتطلع إلى ذكرى المسيرة الخضراء منتصف الأسبوع المقبل، والذي سيعرف توجيه خطاب ملكي جديد للشعب، لابد لنا من التمييز بين ثلاثة مسارات لابد أن نسلكها قبل الحصول على حلّ نهائي للنزاع حول صحرائنا:
المسار الأول دولي، وهو الأكثر نشاطا ودينامية، ونحقق فيه في السنوات الأخيرة اختراقات نوعية، على رأسها اعتراف واشنطن وباريس بالسيادة المغربية على أقاليم الصحراء. ويستدعي منا هذا المسار الاشتغال أكثر على محورين اثنين: المحور البريطاني والمحور الروسي.
فموقف الامتناع الذي اتخذته موسكو في جلسة أمس، وتخليها الجارح عن حليفتها الجزائر في لحظة حاسمة، يفسّر بالعمل الذي قامت به الدبلوماسية المغربية دون شك، في إنشاء منظومة مصالح مع روسيا تمنعها من استعمال حق النقض ضدنا، لكن أيضا بسبب الوضع الخاص الذي تعيشه روسيا، من خلال حربها الطاحنة مع أوكرانيا ومن خلفها حلف الناتو.
لهذا نحتاج إلى الاشتغال أكثر بمنطق المصالح الذي نجح مع الأوربيين والأمريكيين، لحمل روسيا علي الانضمام إلى الدينامية الدولية العامة التي تميل حاليا إلى حسم النزاع لصالح المغرب.
أما بريطانيا، ورغم تصويتها لصالح قرار مجلس الأمن الدولي، التزاما منها بدعم حاملة القلم، أي الولايات المتحدة الأمريكية، فإن موقفها كما عبّرت عنه خلال مرحلة تفسير التصويت، وإحجامها حتى الآن عن التقدم في موقفها الرسمي من مسألة السيادة المغربية على الصحراء، كل هذا يطرح الكثير من التساؤلات حول فعالية الجهود التي بذلها المغرب مع لندن، ومردودية المشاريع، خاصة منها الطاقية، التي وقّعت معها.
أما المسار الثاني، فهو مغربي-مغربي، أي بين الدولة المركزية وسكان أقاليم الصحراء، وهو هو أكثر المسارات جمودا. لقد بذلت الدولة في العقدين الماضيين جهودا جبارة واستثنائية، كلّفت دافعي الضرائب الملايير الطائلة لوضع وتنزيل النموذج الاقتصادي الجديد في الصحراء، وإقامة الكثير من البنيات التحتية الأساسية… لكننا ما زلنا نفتقد إلى ورقة كسب قلوب الساكنة، سواء منها المقيمة في هذه الأقاليم أو تلك الموجودة في تندوف.
نعم قد نكون على وشك إنهاء الاستعدادات الدولية والاقتصادية للانتقال إلى مرحلة متقدمة من تنزيل مقترح الحكم الذاتي، لكننا من حيث الديمقراطية والحكامة نفتقد إلى الحد الأدنى الضروري لخوض مثل هذه التجربة.
لقد تكبّدنا في الأعوام الأخيرة الكثير من الخسائر في مجال البناء المؤسساتي والاحتكام للخيار الديمقراطي، على الصعيدين الوطني والمركزي، فكيف لنا أن نفكّر في خوض مرحلة متقدمة مثل الحكم الذاتي على الصعيد المحلي؟
لابد من التفكير والتعبئة لتنشيط هذا المسار وإعادة الحياة إلى مبادرات بناء الثقة وتوفير الأرضية التي تسمح بالعيش المشترك والاحتكام إلى الصناديق في تدبير الشأن العام واحتواء التعددية والاختلاف.
أما المسار الثالث، وهو الأكثر تعقيدا، فهو مع جارتنا الشرقية الجزائر.
قد ننجح في تحقيق المعادلة التي ترضي جميع الأطراف الدولية وتشبع أطماع القوى الأساسية والمؤثرة، وقد نجد أرضية مشتركة مع مواطنينا الحاملين لفكرة الانفصال، سواء في الداخل أو في تندوف؛ لكننا لن نستطيع إنهاء النزاع وإغلاق الملف بدون حلّ مع الجزائر..
وهنا لابد من الانتباه إلى البعد النفسي الذي عبّر عنه سلوك الدبلوماسي الجزائري في جلسة مجلس الأمن الدولي مساء أمس…