جيل زد.. عن خطيئة مستمرة
“انتهت” دينامية جيل زد كما كان متوقعاً. رمَت حجرا في بركة راكدةٍ، وانصرفت.
مفاجأة البدايات، تكرّرت في النهايات. ما بدأ خاطفاً ومُلهماً ومُربكاً، “تلاشى” سريعاً، ولأكثر من سببٍ ممّا فصلنا فيه هذا الحيّز (حِبر الختام).
ما بقي الآن هو كثيرٌ من الوعود والخطابات من جهة الدولة، التي ألقى وزراؤها الكلام في أيّ مكان في سبيل احتواء الوضع، وعلى أمل الاستدراك على سوء إدارة حكومة مشغولة بـ”الهموز”، آخر فصوله اتهام رئيس المجموعة النيابية لحزب العدالة والتنمية في مجلس النواب عبد الله بوانو لوزارة الصحة بشأن صفقات استفاد منها وزير آخر، ردّت عليها الوزارة ببيان لا يكاد ينفي أو يُثبت.
ما بقي أيضا من دينامية جيل زد هي جبالٌ من الأسئلة التي يجب أن يُفتّش الدارسون والباحثون عن أجوبة لها وقد غادرها الصحافيون يُلاحقون “طوارئَ” وشواغل أخرى.
وما بقي هي شبيبةٌ مغربية أطلّت برأسها على المجتمع من عالم رقمي شائك ومتفاعل ومتنافر ومخترق، ثم عادت إلى “عالمها الموازي”، في انتظار فرصة أخرى لا أحد يدّعي القدرة على استشرافها. هؤلاء لن يكترث أحدٌ للسؤال عنهم وقد انسحبوا “بهدوء”. ستنسى الأحزاب وباقي مؤسسات الوساطة، وستعتقد الدولة أن تمويل حملة انتخابية كافٍ لاستيعاب الشباب في برلمان ومؤسسات تبتلعها حيتانٌ وديناصورات انتخابية “تعرف كيف تفوز” أو يفوز من يخدم مصالحها، أو تعتقد أن تخصيص وصرف ميزانيات ضخمة مثلا في قطاع الصحة سيصحّح الأوضاع دون تفكيك بنى الفساد التي تتحرك بأسلوب “قُطّاع الطريق” الذين يختبئون في كل زاوية من المؤسسات، وبين ثنايا القوانين والصفقات، لحلبِ المال العام.
وأيضاً، وهذا غرض المقالة، تبقّت لائحة طويلة من مئات الشباب يُحاكمون ويُسجنون لأنهم طالبوا بالحق في التعليم والصحة.
هؤلاء لا يجب أن يتحوّلوا إلى مجرد “أضرار جانبية” فقط لأن العقل الأمني، في لحظة ما، انفعل أكثر من اللزوم في التعامل مع “وافد جديد” على الشارع.
انشغل الرأي العام، منذ يوم 27 شتنبر ولأسابيع، بتلك المشهدية الاحتجاجية التي رسمها شباب كان “ميؤوساً من تسييسهم”، ثم تحوّل “الجمهور” إلى التالي جرياً على عادةِ أن ترمينا شبكات التواصل من نقاش إلى آخر، ومن “مُلْهية” إلى أخرى، نلهثُ وراء ما يثير، وقلّ أن نُمسك بخيطٍ “صحيح” أو أن نستقّر فيما يُفيد.
ولأن الواقع لا يرتفع، ولأنّ جهلنا بالأشياء لا ينفيها، تستمر في مكان آخر قصص شباب من جيل زد بشكل أكثر مأساوية بعيداً عن تلك الصورة (الملحمية) للاحتجاج، التي صوّرت المغرب بلداً حيّا، بعضُ شبابه يعبّرون في الشارع بكل رقيّ، وآخرون يفوزون بكأس العالم.
في المحاكم تتواصل فصولٌ أخرى لا تسرّ الناظرين ولا السامعين، ولا يجب أن تحجب انتصارات الكرة أو “التحول التاريخي” في قضية الصحراء الكلام عنها، ما دامت تعني واجهة واحدة في المغرب الموحّد والمأمول أن يكون ديمقراطياً، الواثق من نفسه واختياراته، وليس المغرب المتشكّك من تعبير سلمي لشبابٍ جرّب كثير منه، لأول مرة، “الحوار” مع الدولة، وفق ما يعتقده حقّاً وأمراً طبيعيا بين سلطةٍ ومواطنين، مثلما يشاهد في عالمٍ صارَ أقربَ إليه و”مِلْكَ يديه” بفعل تأثير الأنترنت ومجاهيله، التي تأكد لكثيرين منا أنهم لا يعرفون منه إلا فايسبوك وأنستغرام وإكس، وغوغل.
النيابة العامة تحدثت نهاية أكتوبر الماضي عن أكثر من 2400 شخص، بينهم أكثر من 1400 قيد الاحتجاز، واجهوا ملاحقات قضائية على خلفية احتجاجات جيل زد. هذا يعني أن حجم الاعتقالات كان واسعاً جدا باعتبار حجم من جرى الادعاء ضدهم أمام المحاكم.
الآن يبدو معقولاً تسليط الضوء، قبل أن نطوي صفحة هذه الدينامية، على شباب كان سقف مطالبه معيشياً ( وإنْ بالغ في مرحلةٍ بطرح مطالب سياسية لم تكن متناسبةً مع حجم الزخم المتحقّق في الشارع)، تلاحِقه أحكامٌ قضائية قضت بناءً على تحقيقات مستعجلة وصكوك اتهام بالغت كذلك في تكييف الوقائع والأحداث.
نكتفي بنموذجين: الأول لطلّاب جامعيين، وآخر لمرضى، للدلالة على أن مسار الاعتقالات والمحاكمات على خلفية احتجاجات جيل زد شابته نواقص وأخطاء و”خطايا” يجب تصويبها.
نموذج محاكمة ثلاثة شبان بسبب قمصانٍ تحمل عبارتي “الحرية لفلسطين” و”الصحة والتعليم للجميع” عجائبيٌّ إلى أبعد حدّ وغير متناسبٍ مع مغرب 2025. المحكمة قضت بشهر وأربعة أشهر في حقّ الثلاثة. وحين تعرف أن المُدانين طالبان بسلك الماستر في القنيطرة، إلى جانب صاحب مطبعة بالرباط، يتنقل الأمر من العجائبية إلى كثير من الأسى.
محكمة عين السبع في الدار البيضاء بدورها أدانت شاباً، جرى توقيفه في كلميم قبل بدء الاحتجاجات بيوم واحد، بالسجن خمس سنوات نافذة بادعاء “تحريضه” على المشاركة في احتجاجات جيل زد. الشاب كذلك يتابع دراسته الجامعية في السنة الثالثة، ويملك تكوينا متخصصا في أنظمة المعلوميات والذكاء الاصطناعي.
سجن هؤلاء الطلاب بتُهمة المطالبة السلمية بتصويب أوضاع يعلم الجميع تردّيها قلبٌ لمساراتهم في الحياة رأساً على عقب، واستخدام للقانون بشكل سيء.
أما أن تُحاكم سيدة تعاني اضطرابات نفسية، على خلفية تصريحات مصورة بالتزامن مع الاحتجاجات، فتلك قصة أخرى. دفاع المتهمة أكد أنها خضعت للعلاج مرتين في مستشفى للأمراض العقلية، ودفع بأن تصرفاتها “غير الطبيعية” أمام المحكمة تثبت أنه لا يمكن تحميلها أي مسؤولية جنائية عمّا يصدرها عنها باعتبارها حالة مرضية، وطالب بإخضاعها للعلاج، لكن محاكمتها تواصلت، وأغمض القضاة أعينهم على حقيقة وضعها، إلى أن قضت ضدها المحكمة الابتدائية في الرباط بالسجن النافذ 8 أشهر.
في ابتدائية وجدة، يُتابع قاصر “مختل عقليا”، ويعاني إعاقة حركية، من النيابة العامة لدى المحكمة الابتدائية في حالة اعتقال.
هذه عيّنات مما تُسعف الذاكرة لاستحضاره، وإلا فإن كل حالة من الـ2400 الذين وردوا في بيان النيابة العامة هي قصة إنسانية قبل أن تكون صكّ اتهام صِيغَ على عجل، وفي لحظة ارتباكٍ وضغط، وأقرّ القضاء بمقتضاها إدانات. إلا إنْ كان الغرض من الأساس عملية تأديب واسعة “باش يتربّاو الدراري”.
قصارى القول
افتقاد التعاطف يهدّد المجتمعات. هؤلاء يستحقون تعاطفاً ودفاعاً وتذكيراً بهم، في مواجهة سلوك سلطوي أخذ بالأمور إلى مسارات مدمّرة للأشخاص. قد لا تمثل محاكمة مئات الشبان من منظور السلطة شيئاً، وقد تُبرِّر لنفسها بتطبيق القانون، لكنه من منظور المجتمع يجب أن يعني أننا بصدد حالة تضييق على حق المغاربة في التعبير، وإساءة بالغة للسلطة التقديرية الممنوحة لرجل السلطة وللقضاء.
السلطة سلطة، و”السلطة المطلقة مفسدة مطلقة” كما يُقال، لهذا يجب أن يحوز المجتمع باستمرار كوابحَ تمنع “المفسدة المطلقة”. قصص هؤلاء الشباب ليست حاشيةً على متن السياسة والحقوق ودولة القانون. يوجدون في صلبه، وعلى أساسه يمكن أن تُستخلص كثير من النتائج حول مدى تمتّع السلطة بـ”الروح الرياضية/ الديمقراطية” بشأن حقّ المجتمع في التعبير عن نفسه.
الدينامية التي تفاعل معها الملك محمد السادس إيجابياً، ودعم مشروعية مطالبها، على طريقته، ووفق ما اقتضته المصلحة والمقام، لا تستحق هذه القائمة الطويلة من المتابعين والمدانين والمعتقلين.
إن الإقرار الرسمي بمشروعية مطالب شباب جيل زد، والزخم الذي أحدثته، حتى اعتُمدت ميزانيات واستراتيجيات وقرارات، وفُتحت بلاطوهات الإعلام أمام الحكومة للاستدراك على السُّبات، قبل أن يعود هذا الإعلام إلى “عاداته القديمة” و”روتينه اليومي”، لا ينسجم بأي حال مع 2400 محاكمة، كثير منها بلا معنى.
أطلقوا الشباب ممن عبّروا سلمياً ولم يتورّطوا في ممارسة العنف والتخريب. أما وقد “توقفت” احتجاجات جيل زد، فإن سعي الدولة إلى إيجاد حلّ سيكون ذا دلالة كبيرة، بما يثبت أن السلطة يمكن أن تخطئ، لكنها تتمتع بحسّ عالٍ للتصحيح.
اكتبوا السطر الأخير بقلمِ جُرأة التصويب.