story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

جيتكس.. تشفير السيادة

ص ص

منذ ساعات الصباح الأولى يوم أمس الاثنين 14 أبريل 2025، وفي الوقت الذي يتقاطر فيه كبار الفاعلين في مجال التكنولوجيا الرقمية على مراكش لحضور الدورة الثالثة من معرض “جيتكس إفريقيا”، حاملا معه عناوين لامعة من قبيل الذكاء الاصطناعي، والثقة الرقمية، والتحول الرقمي الشامل؛ كانت المنصة الكبرى في فضاء المعرض تعج بالحركة والكلمات الرنانة، قبالة شاشات عملاقة تعرض آخر الابتكارات، وكاميرا مسيّرة تحلّق غير بعيد عن سقف الخيمة، وابتسامات رسمية تملأ وجوه الوفود والمشاركين.

غير بعيد عن المنصة، كانت وجوه المسؤولين المغاربة تزداد تصلبا تحت أضواء الكاميرات، لا بسبب ثقل اللحظة التنظيمية فقط، بل بسبب وطأة ما يجري في الخلفية: المغرب يعيش لحظة تهديد مدوّية، وسط هجمات سيبرانية غير مسبوقة ضربت عمق البنيات المعلوماتية لمؤسسات حيوية، ووضعت بيانات ملايين المواطنين والمؤسسات تحت رحمة القراصنة.

هل كان علينا صدّ هذه الهجمات وتأمين الأنظمة المعلوماتية أولا، قبل تنظيم هذا المؤتمر، أم إن التئام هذه التظاهرة في دورتها الثالثة، والمخصصة للأمن الرقمي، ينبغي أن يحوّلنا إلى قلعة حصينة أمام ضربات القراصنة الجدد؟

شخصيا لست من هواة التفكير السطحي، هذه لا تلغي تلك، والاختراقات التي تستهدفنا تعني ما تعنيه من هشاشة وقلة استعداد وضعف تدبير، تماما مثلما يعني انعقاد المؤتمر وجود طموح نحو التطوّر والتقدّم.

لكن، وحتى وأنت تحلّ المعضلة ذهنيا بهذا الشكل، كان من الصعب ألا يشعر المتتبع بذاك التوتر الصامت في الممرات الجانبية، أو القلق المتخفي خلف نبرات التفاؤل في الكلمات الرسمية.

ففي الوقت الذي كانت الوفود تتحدث عن مستقبل الذكاء الاصطناعي، كان موظفون في مؤسسات عمومية يهرولون لإغلاق أنظمتهم، خشية أن تُصبح التالية في طابور الضربات.

وفي اللحظة التي كانت فيها الكلمات تتفلسف حول السيادة الرقمية، كانت سيادتنا تُنتهك وسط تسريبات تُنشر على منصات مفتوحة، ورسائل تحذيرية تُرسل في الخفاء.

دون الاستسلام لنظرية المؤامرة أو محاولة إسعاف المسؤولين بمبررات إضافية، لا أعتقد أنه من قبيل المصادفة، أن تتزامن هذه الدورة مع واحدة من أسوأ الهجمات السيبرانية في تاريخ الدولة المغربية، والتي طالت الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، كمؤسسة حيوية تحتضن معطيات حساسة لملايين المغاربة، إلى جانب مؤسسات استراتيجية أخرى مثل الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية، ومنصة تابعة لصندوق لإيداع والتدبير، كلها اضطرت إلى وقف خدماتها مخافة التعرّض لهجوم مشابه.

بلادنا تخوض، كباقي بلدان العالم، معركتها الوجودية في معترك الأمم، وكل طموح نعبّر عنه سيواجه حتما بالقصف والتفخيخ. إلا أن ما حصل معنا في الأيام الأخيرة يتجاوز مستوى الصراع الطبيعي، وهو لا يقل عن إعلان حالة طوارئ شاملة، تؤدي إلى تعليق فعلي لجزء من الحياة المؤسساتية.

عندما تعلن المحافظة العقارية تعليق خدماتها الرقمية فإن لذلك دلالة اقتصادية واستراتيجية، وسيكون من قبيل عمى الألوان عدم الانتباه إلى مفارقات هذا المشهد.

إن هذا النوع من الهجمات لا يمكن اختزاله في مصطلحات تقنية باردة مثل “الاختراق” أو “الثغرة”. نحن أمام واقعة تضاهي في مفعولها حربا سيادية تُخاض من وراء الشاشات، بأسلحة غير مرئية، لكنها ذات أثر مدمر.

فالمعطيات التي سُرّبت ليست مجرد أرقام أو ملفات، بل هي مفاتيح حياة كاملة: بيانات اجتماعية، ومهنية، ومالية، وإدارية، تُحدّد مواقع الأفراد داخل المجتمع، وتكشف هشاشة المؤسسات التي يُفترض أنها وُجدت لحمايتهم.

وحين تصبح رواتب الناس، أرقام بطائقهم الوطنية، وعقود عملهم منشورة في قنوات مفتوحة، فنحن لا نواجه مجرد خرق للخصوصية، بل انهيارا فعليا لجدار الثقة بين المواطن والمؤسسات.

اللافت أن هذا الزلزال وقع في اللحظة ذاتها التي كانت فيها الدولة تُشيد بمنجزاتها الرقمية. عشرات الاتفاقيات وُقعت، ومئات الشركات حضرت، وآلاف الكلمات أُلقيت. كلها تتحدث عن السيادة الرقمية، فيما كُشف عن واحدة من أكثر الوقائع دلالة على هشاشة هذه السيادة.

كيف يمكننا أن نتحدث عن “مغرب رقمي 2030” بينما لا نملك حتى القدرة على حماية أبسط قواعد بياناتنا؟ كيف نقنع العالم بأننا بيئة آمنة للاستثمار، ونحن نعجز عن التصدي لهجوم شارك في تنفيذه شاب عشريني من الخارج، باستخدام أدوات بسيطة؟

إن ما جرى يُعيدنا إلى السؤال الجوهري: كيف ندبّر أممنا الرقمي؟ من يملك القرار السيبراني في المغرب؟ من يحدد الأولويات؟ من يراقب الشركات المتعاقدة؟ من يختبر كفاءة البنيات التحتية؟ وهل نملك أصلا سياسة أمن رقمي سيادية، أم أننا نعيش على فتات المبادرات المتفرقة والوثائق الاستراتيجية التي تُنسى بعد أول ندوة؟

ونحن نحتفي، وحق لنا الاحتفاء، بوصول “جيتكس” دورته الثالثة، نحتاج إلى ما هو أبعد من المسكّنات، وأقرب إلى عملية جراحية عميقة في جسد الدولة الرقمي.

نحتاج إلى إعادة هندسة كاملة لمنظومة الحماية المعلوماتية، وإلى مساءلة علنية حول مآلات القانون المتعلق بحماية المعطيات الشخصية، وإلى خريطة واضحة للمسؤوليات تتقاطع فيها اختصاصات وزارة الانتقال الرقمي، والمديرية العامة لأمن نظم المعلومات، واللجنة الوطنية لمراقبة المعطيات، وكل من له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بملف الأمن الرقمي.

نحتاج إلى تصوّر جديد للسيادة في زمن باتت فيه البيانات هي الثروة والتهديد معا. السيادة لم تعد راية تُرفع، بل خوارزمية تُشفَّر، وجدار حماية يُبنى، وقدرة على التوقّع والتدخل.

ولأننا نتحدث عن الأمن الرقمي، فإن الخطأ لا يُقاس بعدد الضحايا، بل بحجم الثقة المهدورة، وسقف التوقعات الذي انهار.

لقد كشفت هذه الهجمة أن الكثير مما كنا نعتقده تقدما، لم يكن سوى واجهة زجاجية هشّة. وأن الزمن الرقمي لا يرحم من يتهاون.

إن كان الاختراق قد تم عن طريق ثغرة بسيطة، وإن كان منفذه قد كشف عن نفسه بغلطة في تحويل ملف، فإن الغد قد يحمل خصوما أكثر تطورا، وأهدافا أكثر إيلاما. والمعلومات التي لم تُنشر اليوم، قد تُستخدم غدا في صراعات لم تبدأ بعد.

المغرب الرقمي الذي نريد، لا يُبنى فقط على المعارض والاتفاقيات، بل على الثقة، والشفافية، واليقظة، والمحاسبة.

فلنحترم ذكاء الناس كما نحترم ذكاء الآلة. ولنفهم أن الدولة القوية اليوم، ليست من تملك أكبر الخوادم، بل من تحمي أصغر معلومة.

جيتكس فرصة، نعم، لكنه أيضا امتحان.