ثورة بومصاصة!

قد نكون اليوم أمام أول “ثورة” تحصل في قطاع وزاري منذ عرف المغرب الحكومات بشكلها الحديث، بعد الخطوة الاستعراضية الباهرة التي قام بها وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة هذا الأسبوع، بإصداره قرار إعفاء 16 مديرا إقليميا ونقل سبعة آخرين.
عملية تذكّر بعمليات التعيين التي يقوم بها الملك للولاة والعمّال، والتي ظلّت لوحدها، حتى الآن، تتخذ هذا الطابع الجماعي والجذري.
فعندما وطأت قدماه مقر الوزارة التربية متم شهر أكتوبر الماضي، لم يكن محمد سعد برادة بحاجة إلى وقت طويل لاستعراض نواياه. جاء الرجل من قطاع الحلويات، لكنه سرعان ما أظهر أن يده ليست ناعمة كما يوحي مساره المهني… أو ربّما هي خشونة يد من اقترحه.
فما الذي يدفع خليفة شكيب بنموسى في هذا القطاع إلى هذه “الشطابة”؟
وما دلالة هذه الإعفاءات في سياق الجنون الانتخابي المبكّر الذي انتاب بعض الأطراف السياسية؟
وهل يعقل أن يدار قطاع مثل التعليم بمنطق تصفية التركة في ما تبقى من ولاية حكومية تشارف على دخول مرحلة تصريف الأعمال؟
إن التوقيت وحده يثير التساؤل. فقرار من هذا الحجم جاء في الربع الأخير من السنة الدراسية، في وقت يفترض أن يكون التركيز منصبا على استقرار المؤسسات التربوية، لا على خلق ارتباك إداري داخل المديريات وإعادة عدّاد القرارات والاختيارات التدبيرية إلى الصفر.
ومع ذلك، يبدو أن برادة اختار أن يضع بصمته الأولى بالطريقة الأكثر صخبا: المقصلة قبل التفكير، والقرارات الصادمة قبل أي تقييم علني.
وهل يعقل أن يكون هناك تقييم يؤدي إلى مثل هذا القرار في أقل من مئة يوم؟ وإذا كان الوضع في قطاع هام وحيوي مثل التعليم بهذه الكارثية التي تستدعي التغيير الشامل، ألا يجدر بالحكومة كلّها، بدءا برئيسها، أن يرحلوا بدل “التشيار” بمسؤولين إداريين وإفراغ مناصبهم لإمكانية تنصيب الموالين والأتباع؟
المثير للسخرية في البلاغ الذي صدر عن الوزارة حول هذه القرارات، هو أنه اعتمد أسلوبا سفسطائيا، يستعمل العبارات المعاكسة للمعنى المراد إعلانه.
فبينما تنطوي الخطوة على تغيير جذري، صيغ البلاغ باستعمال عبارة “مواصلة تنزيل ورش إصلاح منظومة التربية والتكوين”، قبل الكشف عن نقل 07 مديرين إقليميين، وإنهاء مهام 16 مديرا إقليميا، وفتح باب التباري لشغل منصب مدير إقليمي ب 27 مديرية إقليمية، من بينها 11 منصبا شاغرا.
وزعمت الوزارة أن هذه الخطوة جاءت بناء على عملية تقييم شملت الأداء التربوي والتدبيري للمديرات والمديرين الإقليميين، وقدرتهم على المساهمة في تنزيل برامج الإصلاح وتحقيق أهدافه.
ليأتيها التكذيب صريحا وفصيحا على لسان أحد المشمولين بقرارات الإعفاء، وهو المدير الإقليمي السابق في خريبكة، محمد أجود.
هذا الأخير دوّن عبر حسابه الفيسبوكي قائلا إن بلاغ وزارة التربية الوطنية يحتوي على مغالطات كثيرة. وإن التقييمات التي أجريت بوّأت مديرية خريبكة أولى المراتب على الصعيد الوطني.
وذهب المدير المعفى إلى أن مديرته كانت إلى جانب مديرية خنيفرة، الوحيدتان بالجهة اللتان احتلتا المركز الأول، “وبالتالي ضمن المديريات “الخضر””.
أما عن خضوع مديريته لعملية تفتيش، فالمسؤول السابق كذّب ذلك بشكل صريح، وقال: “لم يسبق لنا أن زارتنا لجان من المفتشية العامة او الوحدة المركزية لدعم الإصلاح. ربما يجب البحث عن مبررات أخرى لإنهاء المهام”.
حاولت الاستقصاء حول سمعة هذا الرجل، عن طريق بعض العارفين بالمجال ومن خلال التعليقات والتفاعلات التي عرّض نفسه لأضوائها بجرأة تنم عن ثقة كبيرة في النفس وخلو “الكرش” من “العجين”، فتبيّن أن هناك شبه إجماع حول كفاءة وسمعة الرجل.
ردود فعل مشابهة صدرت في الكثير من المديريات الأخرى التي شملتها قرارات الإعفاء، كما هو الحال مع المدير الإقليمي للناضور محمد بنعالية، والمدير الإقليمي للعيون، محمد البشير التوبالي، والذي أحيط قرار إعفائه بشبه إجماع على الاستغراب والاستنكار، حتى أن البعض أعطى للأمر أبعاد مرتبطة بأصوله الصحراوية…
وعندما نقل زملائي في “صوت المغرب” السؤال إلى فاعلين نقابيين وتربويين، كانت التعليقات تسير في الاتجاه نفسه. فالكاتب الوطني للجامعة المغربية للتعليم، عبد الله اغميمط، عبّر عن خوفه من أن تكون هذه الحملة من الإعفاءات محاولة لـ”توطين عناصر موالية لخدمة أجندات انتخابية وسياسية، خاصة وأن بعض المديرين المحسوبين على حزب الوزير لم تشملهم قرارات الإعفاء رغم مسؤوليتهم عن اختلالات تدبيرية”.
بينما قال الخبير التربوي ورئيس الجمعية المغربية لتحسين جودة التعليم، عبد الناصر الناجي، إن تقييم أداء المسؤولين في هذا المجال ينبغي أن يخضع للضوابط والمعايير الموضوعية التي تحكم مثل هذه القرارات، “نظرًا لتأثيرها الكبير على سيرورة الإصلاح التربوي”.
وإذا كانت مدارس الريادة التي بصمت عهد الوزير السابق، شكيب بنموسى، هي المؤشر الأساسي في قياس مستوى النجاح أو الفشل، فإن التقييم الذي قام به المرصد الوطني للتنمية البشرية، التابع لوزارة الداخلية، ونُشرت خلاصاته في يونيو 2024، قال إن هناك فرق ظاهر للعيان في المزاج العام بين المدرسة المحتضنة للبرنامج وبين المدرسة التي ما تزال تعتمد المقاربة التربوية المعيارية التقليدية. ولخّص المرصد هذا الفرق في كون محفزات العناية والاهتمام بالأثر التربوي على مستوى التعلمات لدى التلميذ متوفرة أكثر داخل “مدارس الريادة”.
ثم جاءت دراسة قام بها مختبر المغرب للابتكار والتقييم، وهو ثمرة تعاون بين جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية، و”معمل عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر” التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ومؤسسة هارفارد للتنمية الدولية، ومجتمع جميل، في بداية الموسم الدراسي الحالي، لتقول إن مستوى التلميذ المتوسط في “مدرسة الريادة”، يفوق بحوالي 90 في المائة في مادة اللغة الفرنسية وحوالي 82 في المائة في الرياضيات، نظيره عند التلاميذ في مجموعة المقارنة”.
كيف يمكننا إذن تلقي وتقبّل مثل هذه الخطوة؟
وهل يعقل أن يكون هناك تدبير يرجى نجاحه بينما يعتمد قرارات تثير الشك والريبة وتطرد كل إمكانية للانخراط والمساهمة؟
في التاريخ المغربي المعاصر، تُطلق ألقاب غريبة على الثائرين الذين يقلبون الطاولة ويرفضون كل ما هو قائم، دون أن يؤسسوا جديدا بالضرورة.
واليوم، يبدو أننا أمام “ثورة بومصاصة”، نسبة إلى تجربة الوزير السابقة في صناعة حلويات الأطفال. لكنها ثورة بنكهة مختلفة، لا طعم فيها سوى مذاق السلطة المطلقة والدكتاتورية الحزبية.