ثورة الملك على الأحزاب

صحيح أن خطاب الملك أمام البرلمان بغرفتيه بمناسبة افتتاح السنة التشريعية لم يكن يحتمل أكثر من إشارات ضمنية، وتوجيهات رمزية، لكن الملكية كما عرفها المغرب في تاريخه الحديث، لا يمكن أن تخلف موعدها مع لحظات من قبيل الحراك الشبابي الذي يقوده جيل ولي العهد (جيل Z).
ليلة هذا الأحد 19 أكتوبر 2025 لم تكن جلسة إجرائية عابرة في رزنامة الدولة بمناسبة انعقاد مجلس وزاري أملته ضرورة التداول في مشروع القانون المالي، بل كانت إعلانَ انتقال هادئٍ بحمولةٍ ثوريةٍ إلى نظامٍ انتخابي وسياسي مختلف.
وزير الداخلية عبد الوافي الفتيت، وبعدما أسمع الأحزاب السياسية ترجمته الخاصة للتوجيهات الملكية الواردة في خطاب العرش الأخير، أكثر مما سمع منهم مقترحاتهم بخصوص القوانين الانتخابية المقبل؛ حضر المجلس الوزاري، برئاسة الملك، ووضع فوق الطاولة حزمةً تشريعيةً دقيقة تُعالج جوهر العطب لا قشوره:
تخليق الاستحقاقات من منبعها، وتحرير الولوج إلى التمثيل السياسي من قبضة المال والزبونية، وفتح بوابة واسعة أمام النساء والشباب، داخل الأحزاب ومن خارجها، للاقتحام المشروع للمشهد العام.
هكذا فقط تُفهم “الثورة الهادئة”. تغيير القواعد لا تبديل الوجوه. وهكذا يصبح لخروج جيل ولي العهد إلى الشارع دلالة وانعكاس في الاختيارات الكبرى والمؤثرة للدولة.
في التفاصيل القانونية، يذهب مشروع القانون التنظيمي لمجلس النواب مباشرةً إلى الصندوق ومحيطه: تحصين باب البرلمان في وجه كل مَن صدر في حقه حكم يترتب عليه فقدان الأهلية الانتخابية؛ واعتماد الحزم لاستبعاد كل مَن ضُبط متلبساً بجرائم تمس سلامة العمليات الانتخابية؛ وتشديد العقوبات في جميع أطوار الاقتراع.
هذا ليس خطاباً أخلاقياً؛ بل هي آلياتُ إنفاذٍ تُعيد تعريف “الشرعية” على أساس النزاهة لا القدرة على المناورة. والإصلاح هنا يطول علاقة السياسة بالقانون: من انتخاباتٍ تُدار بالحِيَل إلى انتخاباتٍ تُصان بالردع.
أبعد من التخليق، يذهب المشروع إلى صُلب معادلة التمثيل. والشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم 35 سنة تُبَسّط شروط ترشحهم، سواء عبر التزكية الحزبية أو بدونها، وتُمنح حملاتهم دعماً عمومياً يغطي 75% من التكاليف.
ما معنى ذلك عمليا؟
إنه تفكيك ل“التحالف القديم” بين بعض الأحزاب وكتلة الأعيان ومالكي الشيكات الانتخابية.
سوف لن يعود المال شرطا وحيدا للدخول، ولن تكون “التزكية” صك الغفران الوحيد. أما الدوائر الجهوية، فاقتراح تخصيصها حصراً للنساء يزيحها من خانة “الزينة التمثيلية” إلى خانة آليةٍ مُلزِمة لرفع الحضور النسائي حيث تُصنع الأجندات التشريعية فعلاً.
بالتوازي، لا يكتفي مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالأحزاب السياسية بتشجيع المشاركة في الواجهة، بل يضع اليد على ماكينة الإنتاج الحزبي ذاتها، عبر قواعد تُيسّر تأسيس الأحزاب بمشاركة الشباب والنساء، وتحسينُ الحكامة، وضبطُ المالية والحسابات.
الرسالة هنا واضحة: التعددية ليست كثرةَ شعاراتٍ، بل مؤسساتٌ تُحكم من داخلها قبل أن تطلب التفويض من خارجها.
هنا تحديداً تتجلى مرة أخرى “الثورة الهادئة”. الملكية تُصلح القنوات الوسيطة، وتدفعها إلى مستوى يليق بزمن مساءلةٍ رقميةٍ سريعة، فيما ظلّت مشاوراتُ الأحزاب مع وزارة الداخلية أسيرةَ معادلةٍ قديمة لا تبتكر خارج مطلب توسيع المقاعد.
ما حدث مساء هذا الأحد، سياسياً، يبدّد القراءة المتسرعة لخطاب 10 أكتوبر في افتتاح السنة التشريعية كأنه تجاهلٌ للشارع. التراتبية الدستورية تقول إن الرسائل الكبرى تُمهَّد، ثم تأتي الصناعة التشريعية لتضع الآليات. وقد جاءت الحزمة بسقفٍ أعلى بكثير مما أفرزته طاولات المشاورات الحزبية.
منطقُ الدولة هنا يمدّ جسراً ملموساً إلى الشباب الغاضب، ليس بوعودٍ رمزية، بل بفتح باب الترشيح المستقل وتحمّل كلفة التنافس العادل. إنها إشارة سياسية مزدوجة: لا احتكار للتمثيل بعد اليوم عبر “تذاكر الأحزاب” وحدها؛ والمال الانتخابي لن يبقى عتبةً مانعة أمام الداخلين الجدد.
ولسخرية القدر، جاءت هذه القطيعة التشريعية مع منطق “التحنيط” ساعاتٍ قليلة بعد “مأساة” تنظيمية داخل الاتحاد الاشتراكي، حيث مُدِّد للكاتب الأول لولاية رابعة.
المقارنة فاقعة: الدولة تُغيِّر قواعد الوصول إلى السلطة التشريعية لتوسيع قاعدة التداول، فيما حزبٌ تاريخي يضيّق التداول داخل بيته.
هكذا يظهر الفارق بين إصلاحٍ يفتح النوافذ وإدارةٍ تُحكم الأقفال.
المغزى الأعمق أن المجلس الوزاري أعاد تعريف العلاقة بين الملكية والشارع عبر القانون. ليس بالتلويح، بل بتقييد المخالفين، وليس بمخاطبة الشباب عاطفياً، بل بتسوية أرضية اللعب أمامهم.
حين تُموَّل 75% من كلفة حملة مرشّح شاب، وحين تُبسَّط الشروط، وحين يُفتح الباب للترشيح من خارج الأحزاب، فنحن أمام سياسة عمومية تُحوِّل الغضب طاقةً انتخابيةً قابلةً للقياس.
وحين تُشدّد عقوبات المساس بسلامة الاقتراع، فنحن أمام رسالةٍ للنخب القديمة: الشرعية لا تُشترى.
بقي أن تُستكمل الجرأة في التفاصيل التنفيذية: نصوصٌ تطبيقية صارمة، ودلائلُ مسطرية موحدة للضباط والقضاة، ومنظومةُ تتبّعٍ وشفافيةٌ فورية في صرف الدعم العمومي ومراقبة الحملات، وحمايةٌ فعلية للترشيح المستقل من أساليب الخنق المحلي.
إن أُنجز كل هذا، سنكون أمام بداية دورةٍ سياسية تُعيد توزيع الأدوار: الشارع يتحول إلى عرضٍ انتخابي، والملكية تُمسك بحقل التحكيم من خلال جودة القواعد. أما الأحزاب فأمامها فرصة أخيرة لتلحق بالعصر أو تبقى في شرودها.
بهذه الحزمة، لا يُغيَّر وجه المشهد ببلاغٍ ولا بخطبة، بل بنصوصٍ مُلزِمة تعيد تعريف من يدخل وكيف يدخل ومتى يخرج. تلك هي الثورة الهادئة حين تقودها الدولة بقوة القانون لا بقانون القوة.
أي جسرٌ قانونيٌّ وسياسيٌّ إلى الأجيال الجديدة، واستدعاءٌ للأحزاب إلى امتحانٍ لم تعد أسئلته اختيارية.