story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

تكميم الشاشات

ص ص

في زحمة الأحداث المتسارعة والضوضاء التي تثير الغبار وتمنع الرؤية الواضحة لما يحدث من حولنا، انعقدت يوم الجمعة الماضي، 20 شتنبر 2024، ندوة غاية في الأهمية من حيث الموضوع والمشاركين والسياق.
يتعلّق الأمر بالورشة الموضوعاتية حول “حرية التعبير في الفضاء الرقمي”، والتي تخللت أشغال الجامعة الصيفية التي نظمها حزب الأصالة والمعاصرة.
وتكمن أهمية اللقاء في طبيعة الحزب المنظّم، وهو الثاني ضمن التحالف الحكومي الحالي، والحزب الذي يوصف بالمقرّب من عقل الدولة وقلبها نشأة ومسارا، والذي يحمل حقائب العدل والتواصل والشباب… وعلاوة على كل ذلك، لم يكن المشاركان في الورشة سوى القاضي الدستوري السابق، الأستاذ الجامعي ندير المومني، والمدير العام السابق، خلال المرحلة التأسيسية، للهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، أحمد اخشيشن.
التقارير التي نُشرت حول هذه الورشة، كفيلة بإثارة الفزع في قلوب المهتمين والمتابعين لحالة حرية الرأي والتعبير في المغرب، لما حملته العناوين والاقتباسات المنشورة من رسائل تكاد تشيطن قنوات التواصل الحديثة، وتدعو بالتالي إلى خنقها وإسكاتها بدعوى الحفاظ على الصالح العام..
كما لو كان التعبير الحر خطرا داهما على المجتمعات، وليس التوظيف السيء لهذه الحرية.
المدير العام السابق للهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، الذي تخرّج من معهد الصحافة ودرّس فيه، قال إن الظاهرة التواصلية الرقمية تتسم بخصوصيات لم تعرفها أية ظاهرة أخرى، وهي كون الفضاء الرقمي مفتوح ويمكن الدخول إليه في أي وقت وباستمرار، دون أن يكون بين من ينتج المحتوى ومن يستهلكه أي حاجز يدبّر العلاقة بينهما.
وأضاف اخشيشن أن الانحرافات المسجلة في هذا العالم الرقمي تمس جميع مناحي الحياة، الفردية والجماعية، وهو ما يطرح في رأيه إشكالات للمؤسسات الإعلامية والتعليمية من خلال المساس بوظيفتها في التنشئة الاجتماعية.
وعندما تلقى اخشيشن سؤالا من القاعة حول المانع الذي يحول دون توسيع صلاحيات الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري لتشمل العالم الرقمي، قال إن للهيئة حاليا أداة عمل أساسية، تتمثل في كونها تمنح التراخيص وتوزع طيف الترددات وبالتالي لها إمكانية عملية لحجبها عن المتعهّد، بينما التحكم في النشر عبر الانترنت غير متاح من داخل المغرب.
أما الأستاذ ندير المومني فوجّه دعوة للتفكير بشكل جماعي و”ديمقراطي” وشجاع”، للوصول إلى الأجوبة الحقيقية التي تجعل ممارسة حرية التعبير في الزمن الرقمي ممارسة لا تضر بالآخرين، وتحافظ على تمدد حرية الرأي والتعبير.
وحثّ المومني على البحث عن نوع من التوازن، بين الحفاظ على حرية التعبير كمبدأ، وبين التقييدات التي يمكن أن تطالها، استنادا إلى المقررات الأممية. معتبرا أن من الضروري تنظيم حرية الرأي والتعبير في الفضاء الرقمي، على اعتبار أن ترك هذه الحرية دون قيود وضوابط بات مستحيلا برأيه، لما لها من تهديد على أمن الدولة والأفراد بفعل سرعتها وأثرها الآني وسهولة استعمالها. مشددا في الوقت نفسه على ضرورة مراعاة أن حرية الرأي والتعبير من الحقوق الأساسية المكفولة بمواثيق دولية، وتشكل أبرز ركائز ودعامات المجتمع الديموقراطي.
لست من هواة توزيع الأحكام والاجتهاد في سبر أغوار النوايا، وبالتالي لا يمكننا من خلال ما سلف أن نتهم اخشيشن أو المومني، بالتنظير لقمع الحريات الرقمية. لكننا حين نضع اللقاء في سياقه العام الذي أشرت إليه في البداية، وخاصة عندما نستحضر بعض البنود الواردة في مشروع القانون الجنائي الذي قدّمه وزير العدل المنتمي إلى الحزب نفسه، فإننا نصبح أمام أكثر من سبب للخوف والوضع الأيدي فوق القلوب.
لن نكتشف جديدا إذا نحن قلنا إن الدولة (العميقة) تبحث بجدية كبيرة ومنذ زمن طويل، عن طريقة لكبح التعبيرات التي أتاحها المجال الرقمي.
فقبل أقل من عشر سنوات، استيقظنا ذات يوم على مشروع قانون “المدوّنة الرقمية”، والذي كان واحدا من أولى مشاريع القوانين التي أعدتها حكومة ابن كيران، واستبقت بها وزارة مولاي حفيظ العلمي حينها (وزارة الصناعة والتجارة والاستثمار والاقتصاد الرقمي) المشاورات التي كانت تقوم بها لجنة الراحل العربي المساري لمراجعة قوانين الصحافة والنشر.
كما لا يمكن لذاكرتنا أن تكون قاصرة عن استحضار تلك الصدمة التي شكّلها مشروع قانون تكميم الأفواه (22.20) حين تسرّب إلى جدول أعمال مجلس حكومي لم يكن يتضمّنه، بينما نحن جميعا تحت سلطة حالة الطوارئ الصحية والحجر الصحي الذي فرضته جائحة كورونا.
النية المبيّتة ثابتة إذن، والبحث جار علي قدم وساق لمحاصرة الحريات الرقمية وتضييقها. أما المخاطر التي تحدث عنها كل من اخشيشن والمومني، فهي من باب السماء فوقنا، وجميع المجتمعات المعاصرة تعرفها وتعمل على الحد منها.
لكن هناك فروقات واضحة في التعاطي معها، بين الدول والمجتمعات التي تحوز ما يكفي من الضمانات القانونية والسياسية لحماية الحقوق والحريات، وتلك التي تبحث عن أول “سبة” كي تنتزع من المواطنين حق التعبير بحرية.
وعندما يقول السيد اخشيشن إن مؤسسات الإعلام والتعليم تواجه تحديات الحرية الرقمية الكبيرة، فإنه شخصيا يصبح مطالبا بتقديم الجواب، باعتباره تحمّل مسؤوليتين رسميتين، على رأس الإدارة العامة للهاكا وكوزير للتربية الوطنية، عمّا فعلته السياسات العمومية لتقوية هذه المؤسسات وجعلها تقوم بدورها في تأطير وترشيد الحريات الرقمية الجديدة.
ماذا أضفنا إلى المناهج التعليمية والتربوية من مواد وحصص تنشئ لنا ذلك المواطن المتشبّع بفكرة الحرية المؤطرة بالمسؤولية والاستعمال الآمن؟ وكيف ساهم الإعلام العمومي في مرافقة الانفتاح الرقمي، المفروض على كل حال، بالتثقيف الذي يساعد المواطن على استخدامه دون الوقوع في التجاوزات؟
أقول ودون مجازفة: لا شيء!
وهذا يعني أن الانحرافات والتجاوزات الرقمية المنتشرة، هي من باب الذريعة التي أريد لها أن تستمر وتنتشر، حتى يبدو الحل القمعي كما لو كان حتمية.
وهذا منطق سلطوي سينتهي بنا بتكميم الشاشات.