story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

تبّان الرئيس

ص ص

عجيب هو أمر الصور التي سقطت في أيادي السوريين من خزانة الأغراض الشخصية للرئيس الهارب بشّار الأسد.
جلّ ما تناقلته منصات التواصل الاجتماعي يُظهر الدكتاتور السابق عار إلا من ملابس داخلية كما لو أنه كان يرتدي لباس السلطة، بمجرّد خسارته لها انكشف عاريا.
في قلب المعارك والغارات والفواجع التي تكشّفت بعد رحيل الأسد، هناك مشهد يبدو كمسرحية عبثية شوهدت مرارا على خشبة التاريخ، يتجلى فيها الدكتاتور في المشهد الأخير بلباسه الداخلي، لا يستر جسده إلا تبّان مُهترئ، بينما يتهاوى عرشه المبني على أوهام القوة المطلقة.
التبّان، تلك القطعة الصغيرة من القماش، يحمل مفارقة عجيبة: فهو يُغطي أقل القليل لكنه يترك كل شيء مكشوفا، لهذا ينعت بعض الظرفاء التحقيقات، سواء منها البوليسية أو الصحافية التي تكشف كل شيء إلا أهم شيء، بتحقيقات مبدأ التبّان.
في حالة الدكتاتور المهزوم، يظن الناظر إلى تبّانه أنه يخفي أهم ما يمكن ستره، لكنه في الحقيقة يعري صاحبه بالكامل، لأنه يفضح الهشاشة الكامنة خلف القماش، ويُظهر ما لا يُخفى: الجسد المرتعش، والوضعية المهتزة، وحقيقة الإنسان العادي خلف وهم القوة.
في حالة الحكام، يُصبح التبّان أكثر فضحا، ويتضاعف هذا الدور؛ فهو لا يخفي إلا أمورا ثانوية، بينما يكشف عورات الحكم الجوهريّة: الفراغ الأخلاقي، والزيف السياسي، والتسلط الفارغ.
إنه يجردهم من هالة السلطة المزعومة، ويتركهم عراة أمام شعوبهم، لا تغطيهم سوى الذكريات المريرة لعهودهم.
وتبّان الرئيس تحديدا ليس مجرد قطعة قماش تغطي الجسد؛ إنه رمزٌ لعورة أخلاقية وسياسية، ولفراغٍ مروّع خلف جدران القصور والأسوار.
بشار الأسد، الذي لطالما حاول أن يطلّ علينا بثوب “الرمز الأبدي” و”المنقذ الأوحد”، ينتهي في صورته الأخيرة بلباس يكشف عن هشاشته.
لم يكن التبّان سوى استعارة السوريين الأخيرة، استعارتهم التي تعلن هزيمة الدكتاتور أمام التاريخ.
لم تعد هذه الصور مجرد لحظات عابرة على وسائل التواصل، بل تحولت إلى رموز عميقة لنهاية وهم القوة والهيبة التي بناها النظام فوق جماجم الأبرياء.
عبر النكات والتعليقات الساخرة، يعيد السوريون كتابة الرواية: من طاغية يروّع الجميع إلى دمية تهتزّ أمام أعينهم، عارية من كل شرعية أو احترام.
السخرية هنا ليست فقط استهزاء بشخصه، بل إعلانا رمزيا عن كسر هيبة الاستبداد الذي ظن يوما أنه خالد.
على مدى عقود، سعى الدكتاتور إلى أن يكون أكثر من مجرد إنسان؛ أراد أن يتحول إلى فكرة، إلى صنم، إلى حاضر لا يغيب، بل إلى شبه إله.
لكنه، في نهاية المطاف، يبقى أسيرا لجسده، لعورته التي تُفضح أمام الأعين عند سقوط الأقنعة.
عندما تُسقط الشعوب الدكتاتور، تُسقط معه كل الطبقات المُزيفة التي حاول أن يحتمي خلفها: الزي الرسمي، والتصريحات الرنانة، والوعود الكاذبة.
في حالة بشار الأسد، التبّان خلاصة رحلة طويلة من الإنكار والهروب. عشرات السنين قضاها محاطا بالأسوار الأمنية والجدران الإيديولوجية، يبيع وعودا لا تنتهي بالكرامة الوطنية والتنمية والنصر، بينما يُكدّس ثرواته فوق جماجم الأبرياء.
حين ننظر إلى نهايات بعض الدكتاتوريين الذين توهموا امتلاك الخلود، نلاحظ كيف يتكرر المشهد ذاته بشكلٍ مُخجل ومأساوي.
معمر القذافي، الذي طالما تفنن في عروضه المسرحية وألقابه الغريبة، انتهى في أنبوب صرف صحي، مُحاطا بجماهير غاضبة، يطلب الرحمة من أناس لم يجدوا رحمة في حُكمه.
زميله وجاره المقرّب، زين العابدين بن علي، الذي جعل من تونس ملكية شخصية لعائلته، هرب في ليلة مظلمة بلا وداع ولا كرامة، ليعيش منفيا في بلد آخر.
لم يكن ما يستر “تبّان بن علي” سوى الخوف الذي أُزيل حين كسرت الجماهير حاجز الصمت.
حتى حسني مبارك، الذي حكم مصر ثلاثين عاما بقبضة من حديد، وجد نفسه على سرير في قفص زجاجي، يُحاكم أمام شعبه.
الكارثة في هؤلاء الدكتاتوريين ليست في سقوطهم، بل في انكشاف حقيقتهم: أنهم لم يكونوا سوى أشخاص ضعفاء، محاصرين برغباتهم الشخصية ومخاوفهم العميقة.
إن ما يحمي الحاكم ليس الأسوار ولا الجيوش، بل الإرادة الشعبية. القوة الحقيقية ليست في القبضة الحديدية، بل في التوافق الوطني، في أن يكون القائد مرآة لأحلام شعبه وطموحاته.
حين يستند الحاكم إلى دعم شعبي حقيقي، يصبح هذا الدعم لباسه الحقيقي الذي يحميه من عواصف الزمن. في التاريخ الحديث، نجد أمثلة لقادة لم يسقطوا حتى بعد رحيلهم، لأنهم كانوا يحملون مشروعا يستجيب لرغبات الناس، لا لغرورهم الشخصي.
إن صورة الرئيس بلباسه الداخلي، سواء كانت مجازية أو حقيقية، هي أكثر من مجرد لحظة عابرة. إنها إعلان عن درس عميق: أن السلطة التي لا تستند إلى الشرعية الشعبية تصبح عارية بمجرد زوال أدوات القمع.
التبّان، في هذه الحالة، هو رمز للسخرية التاريخية التي تُلاحق كل من يتوهمون أنهم فوق المحاسبة. إنه دعوة للتأمل في مآلات الأنظمة حين تُفرغ نفسها من المضمون، وتحوّل الحكم إلى مجرد استعراض.
إذا كانت نهايات القذافي وبن علي ومبارك وصالح قد أظهرت أن عورة الدكتاتور ستنكشف لا محالة، فإن السؤال المطروح على الجوار العربي لسوريا هو: كيف نمنع تكرار هذه المسرحية؟ كيف نضمن ألا يتحول الحاكم إلى رمز للضعف والغرور؟
الإجابة تكمن في بناء أنظمة تستند إلى قيم الديمقراطية والعدالة. في مجتمعات تُحترم فيها إرادة الناس، ويكون فيها الحاكم خادما للشعب، لا سيدا عليه.
حينها فقط، لن نحتاج إلى أن نشهد المزيد من “تبّانات الرؤساء”، لأنهم لن يكونوا بحاجة إلى الاحتماء وراء الأقنعة.
في نهاية الأمر، يتجلى الدكتاتور في صورته الأخيرة مجردا من كل زينة، عاريا أمام التاريخ.
بشار الأسد ليس استثناء، بل هو فصل آخر في كتاب ضخم عن الحكام الذين نسوا أن الشعوب هي التي تصنعهم، وهي التي تسقطهم.