بّا حماد أخنوش
ضربة “مقصّية” مزدوجة حققها رئيس الحكومة عزيز أخنوش مساء الجمعة الماضي، حين انتهى المجلس الوزاري الذي ترأسه الملك، بقرارات تعيين في مناصب استراتيجية، من بنيها تعيين شكيب بنموسى، مندوبا ساميا للتخطيط.
الضربة مزدوجة على منوال الحجر الواحد الذي يسقط عصفورين، لأن الخطوة تزيح واحدا من “الخصوم” العنيدين الذين واجههم أخنوش منذ توليه رئاسة الحكومة، وفي الوقت نفسه بات شكيب بنموسى عمليا في حكم المغادر للحكومة، بالنظر لما تتطلبه مؤسسة المندوبية السامية للتخطيط من استقلالية تجاه الحكومة.
في حالة المندوب السامي السابق، الاتحادي أحمد الحليمي، لسنا بصدد التخمين أو الاستنتاج، بل لدينا تصريح رسمي وعلني لهذا الأخير، قال فيه قبل أسابيع إن كل من تعاقبوا على رئاسة الحكومة منذ تعيينه طلبوا من الملك إعفاءه.
وبالتالي نحن أمام معطى موثّق وأكيد بمبادرة عزيز أخنوش إلى طلب إعفاء الحليمي.
أما شكيب بنموسى، فلا يخفى على أحد، ممن يتابعون الشأن السياسي والحكومي، أنه ظلّ منذ تعيينه وزيرا للتربية الوطنية، بمثابة “مسمار جحا” في بيت أخنوش. كما أن جزءا من معركة إضرابات السنة الماضية، كان مرتبطا بهذا الود الغائب بين بنموسى وأخنوش، وتحديدا حول الاعتمادات المالية الإضافية التي حصل عليها بنموسى لتنفيذ مشروع مدارس الريادة، وكان مطلوبا منه التنازل عليها لتلبية مطالب الأساتذة، وهو ما نجح في مقاومته، قبل أن يحين أوان رحيله كليا عن الحكومة.
كما أن رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أحمد رضا الشامي، الذي كان موضوع هجوم مباشر من جانب رئيس الحكومة من منصة البرلمان بسبب تقريره حول الشباب الذين لا يعملون ولا يدرسون، أعيد في المجلس الوزاري الأخير نفسه إلى سفارة المغرب لدى الاتحاد الأوربي التي شغلها قبل سنوات.
ودون حاجة لانتظار ما سيتمخض عليه التعديل الحكومي المنتظر، وما إن كان سيوصل وجوها جديدة مما صنعته يدا أخنوش، إلى مناصب تدبيرية من بينها منصب شكيب بنموسى، على غرار التعيين الذي حمل المقرّبة وفاء جمالي، إلى الإمساك بمقاليد وكالة الدعم المباشر؛ فإننا أصبحنا فعليا وعمليا أمام بروز واحدة من أقوى الشخصيات وأكثرها نفوذا في التاريخ الحديث للمغرب، إذ لم يسبق لأي ممن تولّوا قيادة الجهاز الحكومي منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، حيازة هذا القدر من النفوذ والسطوة.
نحن أمام رجل استثنائي، أكبر بكثير من مجرد تكنوقراطي كما كان الحال مع إدريس جطو، أو رجل أعمال مقرب من قلب السلطة كما كان الأمر مع كريم العمراني.
إننا أمام شخصية أزيحت حزمة من الوجوه السياسية والإدارية والمخزنية في طريق صعودها إلى موقع الهيمنة المطلقة.
أزيح من طريقها إدريس جطو نفسه الذي تجرأ على نشر تقرير مفصّل يكشف بالدلائل العلمية كيف أن المغاربة يتغذون على لحوم وخضر وفواكه لا تصلح للاستهلاك الآدمي.
وأزيح لها عبد الإله ابن كيران، رئيس الحكومة الأكثر شعبية وقوة انتخابية في تاريخ المغرب المستقل.
وأزيح لها إدريس الكراوي، رئيس مجلس المنافسة الذي كاد يٌنزل عقوبات مالية كبيرة على شركات توزيع المحروقات، من بينها شركة أخنوش.
واليوم، أزيح لها أحمد الحليمي وشكيب بنموسى بضربة واحدة، فيما تقول المصادر إن أيام والي بنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري باتت معدودة، بينما يعيش رئيس هيئة النزاهة والوقاية من الرشوة، محمد بشير الراشدي، حالة بلوكاج قسري بفعل امتناع أخنوش عن جمع اللجنة الوطنية التي تحوز عمليا صلاحيات الهيئة…
يذكّرنا هذا المشهد باسم سابق عن كل الأسماء التي عرفها المغرب المستقل، بل وحتى مغرب عهد الحماية، وهو الصدر الأعظم أحمد بنموسى (المعروف باسم بّا حماد)، والذي صُنع في عهد السلطان الحسن الأول ليسيطر زمن خليفته السلطان اليافع مولاي عبد العزيز.
اشتهر با حماد، حسب المصادر التاريخية، بذكائه السياسي وقدرته على المناورة داخل دوائر الحكم المخزني، وارتقى إلى منصب الصدر الأعظم (الوزير الأول) في عهد السلطان الحسن الأول، واستمر في منصبه خلال حكم السلطان الشاب مولاي عبد العزيز.
والشاهد عندنا في سياق هذه المقارنة، أن بّا حماد استطاع منذ عهد الحسن الأول، وبشكل خاص في عهد عبد العزيز أواخر القرن 19، إزاحة أو تهميش جلّ المنافسين أو المسؤولين المتمتعين بقدر من التأثير، مثل الحاجب السلطاني الطيب الصبيحي الذي كان أحد المقربين من السلطان الحسن الأول، تماما كما كان الشأن مع الوزير عبد السلام السلاوي.
كما عمل الصدر الأعظم على تحييد القياد وزعماء القبائل الأقوياء، مثل الحاج محمد الكلاوي، زعيم قبيلة “الكلاوة”، والقائد عيسى بن عمر الذي كان يحكم منطقة عبدة، وذلك من خلال التحالف معهم في بعض الأوقات وإبقائهم تحت السيطرة في أوقات أخرى…
ولم يسلم من زحف الصدر الأعظم حتى الأمراء، من بينهم الأمير مولاي إبراهيم، شقيق السلطان الحسن الأول، وأحد أفراد العائلة العلوية الذين كان لهم تطلعات سياسية، والأمير مولاي عمر الذي كان له نفوذ وتأثير داخل العائلة العلوية، ولكنه كان يعتبر منافسا سياسيا لبا حماد، لذا تم إبعاده عن دوائر القرار.
كما شملت جرّافة بّا حماد قادة عسكريين مثل الحاج التهامي الكلاوي، والعربي المشرفي وعبد الكريم بنسليمان… إلى جانب بعض العلماء وقادة الزوايا أمثال الشيخ ماء العينين، والشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني…
واستغل الصدر الأعظم فترة ضعف الحكم المركزي للسلطان، بعد رحيل الحسن الأول، حيث كان عبد العزيز شابًا قليل الخبرة عند توليه الحكم، مما أعطى بّا حماد فرصة للتأثير الكبير على قراراته، ومن تم تحييد منافسيه وإبعادهم عن دائرة صنع القرار.
كما استثمر بّا حماد سيطرته على الموارد المالية للدولة، ما سمح له بإضعاف خصومه من خلال حرمانهم من الأموال التي كانوا يعتمدون عليها لتعزيز نفوذهم داخل المخزن، وفي الوقت نفسه إغراء المسؤولين الصغار والصاعدين. كما نسج الصدر الأعظم تحالفات قبلية وسياسية مع بعض الزعامات المحلية لتقوية نفوذه وتحييد أي تهديدات قد تأتي من هؤلاء القادة أو من الشخصيات القوية داخل المخزن.
وفوق هذا وذاك، كان بّا حماد بارعا في استخدام الحيل والمناورات السياسية لإضعاف خصومه داخليًا وخارجيًا. عبر استخدام الإشاعات والتآمر السياسي، كما استطاع أن يخلق حالة من الشكوك حول ولاء بعض الشخصيات، ما أدى إلى تقليص نفوذهم أو إبعادهم عن السلطة.
والحقيقة أن الكتابات التاريخية متأرجحة بين التقييمين الإيجابي والسلبي لسلوك الصدر الأعظم “بّا حماد”.
فهناك من يعتبر أنه قام بحماية الدولة من الانهيار، وحارب خصومها، وحافظ على وحدة أراضيها رغم الانتشار الكبير لظاهرة “السيبة”؛ وفي المقابل هناك من يقول إنه أعاق تقدّم المغرب ومنع استدراكه للعجز الكبير أمام خصومه الأوربيين.
ويظل التقييم الحاسم الوحيد هو الذي قام به التاريخ، ذلك أن الدولة آلت إلى الفشل والانهيار مباشرة بعد رحيل الصدر الأعظم “بّا حماد”، وانتهى بها الأمر إلى السقوط تحت الحماية والاستعمار الأجنبيين. أي أن الرجل وإن كان قد أسدى خدمات معيّنة، إلا أنها كانت ظرفية وعابرة، وأورثت الدولة الضعف والهشاشة.
نحن اليوم أمام بوادر بروز شخصية “بّا حماد” جديدة، في شخص عزيز أخنوش، من خلال مسارها القائم على تحييد الخصوم في مؤسسات الدولة، وبث أتباعه ومحظييه في أوصالها، والجمع بين السلطة والمال… أي أننا أمام الظاهرة نفسها لكن بأدوات وطرق مختلفة.
اعتمد بّا حماد على تحالفات قبلية وعسكرية وقوة البلاط الملكي التقليدي، بينما يستخدم أخنوش التحالفات السياسية الحديثة والتأثير الاقتصادي والرقابة الإدارية لتحقيق أهدافه.
في الحالتين، نجد أن تركيز النفوذ يؤدي إلى إقصاء أية شخصية تعترض طريق السيطرة، مما يطرح أسئلة حول مدى استدامة هذا النفوذ على المدى البعيد، وما إذا كان هذا النموذج يضمن استقرارا سياسيا أم أنه يحمل في طياته بذور الفشل.