بيئة مُنهكة ومدن يخنقها التهميش.. الوجه الآخر لصناعة الفوسفاط بالمغرب

كشف تحقيق صحافي أعدته منصة ” فولو ذي موني” (follow the money)، عن الثمن الباهظ الذي يدفعه سكان المغرب والبيئة في مقابل الثروة الهائلة التي يجنيها المكتب الشريف للفوسفاط، أكبر مصدر لـ “الذهب الأبيض” في العالم.
فبينما تمثل الثروة الفوسفاطية في المغرب ركيزة أساسية للاقتصاد بالمملكة وعنصرا حيويا للانتقال العالمي نحو الطاقة النظيفة، تتفاقم في مدن التعدين سلسلة من المشاكل البيئية والاجتماعية التي تثير غضب الساكنة المحلية.
مدن تتنفس الفوسفات
أظهر التحقيق، الذي أعدته الصحافية الهولندية مانون سترافينس بتعاون مع الصحافي المغربي صلاح الدين خرواعي، أن عمليات استخراج الفوسفاط ومعالجته “تتسبب في أضرار بيئية جسيمة لا يمكن تجاهلها”، مشيرا إلى أن المناطق القريبة من المصانع والمناجم، تواجه تلوثا متزايدا في الهواء والماء.
وأشار المصدر إلى أن المكتب الشريف للفوسفاط يعد من الشركات القليلة عالميا “التي تسمح بإلقاء مخلفات الجبس الفوسفوري في البحر”.
الجبس الفوسفوري، هو نفايات تحتوي على كميات صغيرة من العناصر المشعة مثل اليورانيوم والراديوم
وبحسب الجمعية الدولية للأسمدة (IFA)، فإن الشركة “تُلقي ما يقارب 40 مليون طن من هذه المخلفات في المحيط الأطلسي سنويا”، وهو رقم يثير قلق المنظمات البيئية والحقوقية.
وعلى غرار التلوث المائي، أظهرت دراسة أجريت سنة 2019 أن الهواء المحيط بمنشآت المكتب الشريف للفوسفاط في آسفي والجرف الأصفر “يحتوي على غازات سامة وجسيمات دقيقة تتجاوز حدود منظمة الصحة العالمية بنسبة تتراوح بين 6 إلى 16 مرة”، وهو ما يرفع بشكل كبير من مخاطر الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي.
كما سلط التحقيق الضوء على معاناة الفلاحين من تدهور أراضيهم الزراعية وتلوث مياه الشرب بمادة الفلوريد، التي تسبب مرضا يعرف بالتسمم بالفلور. فضلا عن الانفجارات المستخدمة في المناجم التي تتسبب في تصدع جدران بعض المنازل.
وعلى الرغم من أن الشركة أعلنت أنها تهدف إلى استعادة 1,000 هكتار من الأراضي في مناطق التعدين السابقة كل عام، فإن التحقيق يشير إلى أنها “لم تحقق هذا الهدف منذ سنوات، تاركةً خلفها أراضي قاحلة تشبه الصحراء”.
استهتار يضر بالمجتمع والصحة
ومن جانب آخر، كشفت المنصة أن أثر عمليات استخراج الفوسفاط تتجاوز البيئة ليطال صحة العمال والمواطنين بشكل مباشر، ويكشف عن “استهتار واضح بالمعايير المهنية والأخلاقية، خاصة فيما يتعلق بعمال المقاولات الفرعية”.
يروي التحقيق قصة عمر، العامل البالغ من العمر 36 سنة، الذي كان يشتغل لدى مقاول فرعي لتنظيف خزانات حمض الفوسفوريك مقابل أجر زهيد يعادل 1.50 يورو في الساعة. وفي يوم مأساوي، تعرض عمر وثلاثة من زملائه لإصابة بليغة بعد استنشاقهم لغازات سامة تسربت عن طريق الخطأ.
أدى الحادث إلى إصابة عمر بالشلل، “لكن الشركة المقاولة لم تقدم له تعويضا عادلا، ولم تسعفه إلا بعد وفاة أحد زملائه، وعرضت عليه مبلغا شهريا لا يتجاوز 170 يورو (حوالي 1700 درهم)”، وهو ما رفضه عمر معتبرا إياه غير كاف لإعالة أسرته المكونة من عشرة أفراد.
ولم تكن قصة عمر حادثا معزولا، فوفقا لتقارير المكتب الشريف للفوسفاط على مدار الخمس سنوات الماضية، “شهدت هذه الأخيرة خلال السنوات الخمس الماضية 1,245 حادث عمل، أسفرت عن وفاة 14 شخصاً وإصابة 245 آخرين بإصابات خطيرة”.
وعلى الرغم من هذه الأرقام، يؤكد التحقيق أن المقاول الذي كان يُشغّل عمر لا يزال يعمل مع المكتب الشريف للفوسفاط، مما يثير تساؤلات جدية حول مدى التزامها بالمسؤولية ومعايير السلامة.
الفقر والاحتجاجات.. صرخة يائسة
على الرغم من أن مدينتي آسفي واليوسفية تقعان في قلب الثروة الفوسفاطية، إلا أنهما من بين أفقر مناطق المغرب، حيث يعاني الشباب من الفقر والبطالة.
يؤكد النشطاء المحليون أن أرباح صناعة الفوسفاط “لا يستفيد منها السكان”، بل على العكس، يؤدي التلوث إلى تدهور المحاصيل الزراعية ويقلل من دخل الفلاحين، مما يزيد من الفقر والتهميش.
ويُظهر التحقيق الذي أعدته الصحافية مانون بتعاون مع الصحافي خرواعي أن احتجاجات الشباب ضد مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط قد تصاعدت، خاصة منذ اعتمادها على المقاولات الفرعية التي لا تحترم حقوق العمال.
في هذا السياق، صادفت الصحافية المعدة للتحقيق خلال زيارة للمكتب الشريف للفوسفاط باليوسفية، تعبيرا احتجاجيا على الأوضاع، إذ تم نصب خيمة رُفع فوقها العلم المغربي ولافتة كتب عليها: “نحن ضحايا السلطة وضحايا المكتب الشريف للفوسفاط… لا للاحتقار”.
وتُعد قصة أيوب الحدود المنحدر من قرية الكنتور التابعة لإقليم اليوسفية، الذي وضع حدا لحياته سنة 2024، احتجاجا على الفقر والتهميش، مثالا مأساويا على اليأس المتفشي في المنطقة.
في فيديو مؤثر سجله الراحل السنة الماضية قبل وفاته بعد إقدامه على إضرام النار في نفسه، عبر أيوب عن غضبه من الفقر والتهميش، وأشار إلى أسنانه المتآكلة قائلا: “لم يتبقَّ لنا إلا الأسنان البنية والبؤس!” بهذه العبارة لخص أيوب المعاناة الصحية والاجتماعية التي يعاني منها السكان.
وأثناء إعدادها لهذا التحقيق تقول الصحافية مانون سترافينس إنها تعرضت “لمضايقات” حسب تعبيرها، من بينها تعرض زميلها الصحافي المتعاون معها المغربي صلاح الدين خرواعي “للطرد رفقة أسرته” من سكنهم الوظيفي الذي يستفيد منه والده المتقاعد الذي كان يشتغل بقطاع التعليم، وكذا “شبهة اختراق” حاسوبها حسب تعبيرها، و”إلغاء ثلاثة أشخاص من بينهم محامي ونقابي لقاءها بعد تأكيدهما اللقاء”.
*أكرم القصطلني.. صحافي متدرب