بنكيران وأخنوش.. البلوكاج الثاني

كأن الزمن السياسي في المغرب جامد لا يتحرّك. ما وقع في اليومين الماضيين، بين خطاب فاتح ماي لعبد الاله ابن كيران، ومؤتمر أخنوش في مدينة الداخلة، ليس مجرد تزامن سياسي عابر بين تجمّعين لرجلين سياسيين؛ بل هو إعلان رسمي عن انطلاق معركة سياسية جديدة ـ قديمة، قوامها ليس التنافس البرنامجي ولا التدافع الإيديولوجي، بل الصراع على من سيتولى تصريف سلطات الحكم باسم الدولة في استحقاق 2026.
لقد تبيّن بما لا يدع مجالا للشك، ألا مشروع يجمع المغاربة اليوم سوى الخلاص من حكومة تُجسّد أبشع تحالف بين المال والسلطة، وأن البديل الوحيد القادر على تأطير هذا الغضب المتنامي لم يعد سوى عبد الإله ابن كيران.
في خطاب أشبه ببيان تعبئة عامة، خرج ابن كيران من منزله بحي الليمون في العاصمة الرباط، ليقول للمغاربة، بطريقته الخاصة: أنا عدت.. وهذه حرب.. والخصم معروف.. فلنبدأ.
وصفه لبعض المنتقدين لدعم القضية الفلسطينية بـ”الحمير” و”الميكروبات”، لم يكن زلة لسان ولا لحظة انفعال، بل قنبلة دخانية لتشتيت الخصوم واختبار جاهزية الساحة للمعركة المقبلة.
إنه مصارع مخضرم يستعيد نفس تكتيك 2011، حين صنع من “التمساح” و”العفريت” رمزين لمواجهة “التحكم”، وها هو اليوم يُسقط نفس الخطاب على رجل واحد: عزيز أخنوش، الذي صار تمثالا فرعونيا متضخما لكل ما يكرهه المغاربة من فساد وتسلّط وبذخ وقمع واحتقار للعقول.
وإذا كان ابن كيران يعلن من حيث هو في المعارضة بدء الحرب، فإن أخنوش من حيث هو في الحكومة يؤكد من مدينة الداخلة أن معركته لم تنته، وأنه عازم على دخول سباق العهدة الثانية، بل إنه يوزع غنائمها من الآن.
مشهد المؤتمر الحزبي الذي عقده حزب التجمع الوطني للأحرار هناك، لم يكن احتفالا تنظيميا عاديا، بل كان استعراضا للعضلات مدجّجا بمال الدولة وإعلام التابعين ورجال الأعمال المحظوظين.
وفي غمرة هذه البهرجة، فجّرت كاتبة الدولة في الصيد البحري، زكية الدريوش، فضيحة دعم أحد زملائها في الحزب بمبلغ يفوق 11 مليون درهم (مليار و100 مليون سنتيم) لإنشاء “مفرخة للرخويات”؛ فصارت رمزية المؤتمر مزيجا من الأخطبوط والحبّار، في وطن يُطلب فيه من المواطن الاقتيات على سردين عبد الإله المنتظر.
تصبح المفارقة أكثر وضوحا حين نضع مشهد الداخلة مقابل مشهد بوزنيقة، حيث عقد العدالة والتنمية مؤتمره التاسع قبل ذلك بأيام، بوسائل شبه معدومة، جمع فيها المشاركون بين الدراعة والجلباب والراية الفلسطينية، وتحت خيمة واحدة ضمّت الشيخ السلفي واليساري الفلسطيني، وامتزج فيها الدفّ مع التكبير، واستُعيد فيها سحر السياسة الرمزية من بين الركام.
كل شيء هناك كان دليلا على أن “المصباح” لم ينطفئ، بل يستعيد وميضه، وأن التنظيم الذي سقط من الطابق السابع عشر سنة 2021 قد عاد إلى الحياة، لا بوهم العودة إلى السلطة، بل بإرادة استعادة التوازن داخل حقل سياسي مختل لصالح رأس المال والسلطة.
الذين يُصرّون على قراءة عودة ابن كيران كظاهرة “شعبوية” منتهية الصلاحية، يتناسون أن الرجل ـ بكل عيوبه ـ ليس ذئبا منفردا. بل هو جزء من معادلة دولة، ومحور من محاور التوازن الداخلي. وكل قراءة خارج هذا الإطار تظل ساذجة.
لا أحد يمكنه تنظيم مؤتمر بتلك القوة، في هذا التوقيت، ووسط هذا التجاهل الرسمي، دون ضوء أخضر واضح، حتى ولو كان مشروطا أو منقوصا.
ابن كيران لا يعود ليستولي على الحكومة بالضرورة، بل ليمنع الاستفراد بالدولة. وهذا هو جوهر الصراع.
في المقابل، يبدو أن حزب التجمع الوطني للأحرار دخل مرحلة التآكل الداخلي المبكر، رغم كل الإمكانيات الخارقة التي تسنده.
فالحزب الذي يقود الحكومة يُغلق مؤتمراته أمام الصحافة رغم ابتلاعه لها، ويخشى النقل المباشر، ويتعمّد إنتاج خطاب مُعلّب ومبتذل عبر وجوه بعضها يثير السخرية، وهو ما يشير إلى هشاشة بنيته الرمزية، مقابل فائض المال والتسلط.
ومع ذلك، تُنتج آلة حزب الحمامة فضائح بالجملة، من دعم الأغنام إلى مفرخات الرخويات، وصولا إلى تلويث صورة الدولة نفسها، حين يُظهرها كراع لهذا العبث.
لا غرابة إذن أن نكون أمام إعادة إنتاج لنفس لحظة البلوكاج التي عاشها المغرب سنة 2016. الفرق الوحيد هو أن البلوكاج هذه المرة ليس تقنيا ولا تكتيكيا، بل بنيوي.
البلوكاج اليوم ليس في تشكيل الحكومة، بل في إمكانية إنتاج بديل سياسي مقنع. فالمغاربة لم يعودوا يؤمنون بالوعود ولا بالبرامج، بل يؤمنون فقط بما يمكن أن يُعيد لهم كرامتهم.
وحين يصير ابن كيران، رغم كل عيوبه، صوتا مفضلا على الصمت الذي يفيد الخنوع والاستسلام، فهذا يعني أن السياسة فقدت أطرافها كلها ولم يبق منها سوى رأس يرفض السجود للمال.
إن ما نعيشه اليوم ليس صراعا بين شخصين، ولا بين حزبين، بل بين نموذجي حكم: نموذج ابن كيران، الذي يُحافظ ـولو نسبياـ على خط رجعة مع المجتمع والدولة معا، ونموذج أخنوش، الذي قرّر أن يبتلع كل شيء دفعة واحدة، من البحر إلى البر، ومن الإعلام إلى القضاء، ومن الإشهار إلى الصفقات.
نحن أمام نسخة محدثة من معركة “البلوكاج”، لكن بأدوات مختلفة. لم تعد المواجهة متعلّقة بمن يُشكّل الحكومة، بل بمن سيُعيد الشرعية لفعل السياسة.
ولأن الدولة لا يمكنها أن تتحمل استمرار هذا الاختلال لعشر سنوات أخرى، فإن عودة ابن كيران، بكل ضجيجها، ليست عودة لحزب مصباح، بل إنذار بأن مصباح البلاد قد يُطفأ نهائيا إذا بقيت الأضواء كلها تحت قبضة من لا يرى سوى نفسه ومقرّبيه.
وبالنظر إلى كل ما يجري، يصعب القول إننا نتجه فعلا نحو 2026؛ بل يبدو أننا ما نزال نراوح مكاننا في 2016، وكأن الزمن السياسي للمغرب توقف عند لحظة البلوكاج التي أُعيد تدويرها بصيغ مختلفة، لكن بمنطق العبث نفسه.
عشر سنوات كاملة من الدوران في الفراغ، من تقاذف التهم واعتقال الأبرياء وتبادل المواقع وتجميل الرداءة باسم الواقعية أو الاستقرار.
إنها ليست مجرد معركة سياسية بين رجلين أو حزبين، بل علامة على عطب عميق ضرب آلة إنتاج البدائل، وأصاب السياسة المغربية في مقتل.
فحين يُصبح الماضي هو مخزن الذخيرة الوحيد أمام الحاضر لصناعة المستقبل، وتُختزل الخيارات في عودة هذا أو سقوط ذاك، فإننا لا نخوض صراعا نحو المستقبل، بل نستنزف ما تبقى من أعمارنا في ترميم ما تهدّم دون أن نعيد بناء ما يصلح للعيش.