انتخابات 2026: أيّ تغيير حقيقي يمكن أن نحلم به؟
مع اقتراب استحقاق انتخابي جديد، يعود السؤال نفسه بإلحاح هل ستكون هذه الدورة فرصة للتغيير الحقيقي أم مجرد نسخة جديدة من المسرحية نفسها؟ لقد جربنا كل التجارب الممكنة منذ عقود طويلة، حكومات يمينية يسارية، تيارات محافظة وإسلامية، تغييرات دستورية وإصلاحات شكلية ومع ذلك ظل واقع المواطن كما هو، والثقة في المؤسسات تتآكل وازدادت الفجوة بين الشعب ومراكز القرار اتساعاً، وهو ما يجعل المواطن يعيش حالة دائمة من الإحباط والشك في قيمة المشاركة السياسية، ويعكس في الوقت نفسه أن كل دورة انتخابية تمثل اختبارا حقيقيا لرؤية الدولة وقدرتها على التجاوب مع مطالب المجتمع.
التجربة أثبتت أن المشكلة ليست في الأسماء ولا في الشعارات بل في آليات اتخاذ القرار نفسها وفي غياب إرادة حقيقية لتغيير قواعد اللعبة، فكل تجربة سياسية أعقبتها وعود بالتغيير اصطدمت بمألوف النفوذ والشبكات غير المرئية التي تحكم السياسة دون مساءلة، والفقر والبطالة وتردّي الخدمات الأساسية وانسداد فرص المشاركة الفعلية كلها شاهدة على أن التغيير الحقيقي لم يأتِ وأن المواطن بقي متفرجاً على مسرح تُكتب له نفس النصوص منذ عقود، وهو ما يفرض إعادة التفكير في طبيعة النظام السياسي وطريقة التعامل مع مطالب المجتمع المدني، بحيث تتحول الانتخابات من مجرد إجراء شكلي إلى أداة حقيقية للتغيير.
لقد شهدت البلاد منذ الاستقلال تغييرات سياسية ودستورية متكررة، كان آخرها سلسلة الإصلاحات الدستورية التي استهدفت تعزيز المشاركة السياسية وتوسيع الحريات، ومع ذلك لم تترافق هذه الإصلاحات مع تغيير حقيقي في الواقع اليومي للمواطن، حيث استمرت الفوارق الاجتماعية والاقتصادية في الاتساع وظلت الفئات المهمشة خارج دائرة القرار الفعلي، وهو ما يطرح تساؤلاً جوهرياً حول جدوى مجرد تغيير النصوص القانونية إذا لم تترافق مع إرادة سياسية صادقة للإصلاح الشامل، فالواقع أثبت أن كل تعديل دستوري أو إصلاح شكلي لم يكن أكثر من محاولة لإضفاء شرعية جديدة على نظام قائم على علاقات قوة قديمة.
لقد جربنا الحكومات اليمينية التي وعدت بتحرير الاقتصاد وتحفيز الاستثمار ومع ذلك استمرت البطالة والفقر في التصاعد، كما جربنا الحكومات اليسارية التي وعدت بالعدالة الاجتماعية والتوزيع المتساوي للثروات ومع ذلك لم تتحسن ظروف الطبقات الشعبية إلا بشكل محدود، كما جربنا تيارات ذات خلفية إسلامية التي ركزت على القيم والمبادئ الأخلاقية في السياسة ومع ذلك لم تتغير البنية الهيكلية للسلطة ولم يتحقق المواطن من حقوقه الأساسية، وهو ما يجعلنا نستنتج أن التجربة السياسية وحدها مهما كانت توجهاتها لن تضمن التغيير ما لم تترافق مع إصلاحات مؤسساتية وثقافية عميقة.
التعديلات الدستورية والإصلاحات الشكلية لم تكن أكثر من محاولات لإضفاء شرعية جديدة على نظام ظل محكوماً بعلاقات قوة قديمة حيث يقتصر التنافس على المواقع والألقاب في حين تبقى الأولوية الحقيقية للشعب غائبة، والسياسة التي لا تعيد بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع والتي لا تضع المواطن في قلب القرار هي سياسة لا تغير شيئاً سوى المشهد الخارجي وتترك الأزمة الهيكلية قائمة، ومن هنا يصبح التساؤل حول فاعلية الانتخابات المقبلة أكثر إلحاحاً وأهمية، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة التي تشمل تزايد نسب الفقر والبطالة بين الشباب والمناطق المهمشة والتي تجاوزت، بحسب بعض التقديرات، 25 بالمئة من الفئة النشطة.
إن الرهان الحقيقي لانتخابات 2026 لا يكمن في وجوه جديدة أو شعارات براقة بل في إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة وفي قدرة المواطن على أن يتحوّل صوته من مجرد إجراء شكلي إلى قوة فاعلة في صناعة السياسات وعلى أن يُفتح المجال أمام مبادرات المجتمع المدني لتشارك في صياغة القرارات التي تؤثر في حياتهم اليومية بعيداً عن التحكم المركزي واللوبيات المتشابكة، كما يجب أن يشمل هذا الرهان تطوير آليات المشاركة لضمان تمثيل حقيقي لمختلف الفئات الاجتماعية والفئات المهمشة ودمجها في العملية السياسية، بحيث لا يبقى القرار حكراً على دوائر ضيقة أو مصالح محددة، وهو ما يجعل من الضروري أيضاً تطوير منظومة تعليمية قادرة على تربية المواطن على قيم المشاركة والمسؤولية السياسية.
الرهان يتجاوز مجرد التغيير السياسي المباشر ليصل إلى تغيير ثقافة الحكم نفسها، ثقافة تقوم على الشفافية والمساءلة وعلى احترام القانون والحقوق وعلى إدراك أن التنمية الحقيقية لا تتحقق إلا بإنصاف جميع فئات المجتمع وليس بإرضاء قوى محددة أو إعادة إنتاج منظومة تقليدية، وهذا الرهان يتطلب شجاعة من الدولة ووعي المجتمع وإصرار المواطن على المطالبة بحقوقه وهو دعوة لتجاوز النظرة السطحية للسياسة والابتعاد عن التداول بين خيارات شكلية لم تقدم جديداً منذ عقود، وهو ما يستدعي أيضاً إعادة النظر في العلاقة بين السلطة والمجتمع والحد من النفوذ غير المرئي الذي يعطل أي جهود إصلاحية حقيقية، مع التأكيد على أن الإصلاح السياسي الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا إذا ارتبط بتغيير جذري في الاقتصاد والتعليم والصحة والعدالة الاجتماعية، لأن السياسة المنفصلة عن هذه القطاعات تظل ناقصة وغير قادرة على تحقيق تحول ملموس في حياة المواطن.
لقد أثبتت التجارب السابقة أن كل تغيير دستوري أو إصلاحي لم يرافقه إصلاح مؤسساتي عميق لم يكن أكثر من عبث شكلي، فالانتخابات التي جرت في السنوات الماضية شهدت نسب مشاركة منخفضة تصل في بعض المناطق إلى أقل من 40 بالمئة من الناخبين المؤهلين، وهو مؤشر واضح على فقدان الثقة في فاعلية العملية السياسية، كما أن الفساد الإداري والبيروقراطي استمر في تعطيل أي محاولة لإصلاح ملموس، وهو ما يجعل من الضروري أن ترافق الانتخابات المقبلة إصلاحات شفافة في الإدارة العامة ومراجعة شاملة لآليات اختيار المسؤولين ومساءلتهم بشكل حقيقي.
إن انتخابات 2026، مهما حملت من وجوه جديدة أو شعارات متجددة، لن تحقق تغييراً حقيقياً إلا إذا رافقتها إرادة صادقة لإصلاح المؤسسات والآليات والثقافة السياسية وفتح المجال أمام المشاركة الحقيقية وربط المسؤولية بالمحاسبة على أرض الواقع، وهو ما يجعل من الضروري أيضاً تعزيز الشفافية في الانتخابات ومكافحة كل أشكال التلاعب لضمان نزاهتها وصدقيتها، فالمواطن اليوم يحتاج إلى انتقال سياسي هادئ وشجاع يقوم على مبادئ العدالة والمساواة وعلى التعاقد بين الدولة والمجتمع بما يضمن حياة كريمة واستقراراً حقيقياً بعيداً عن الدورات الشكلية التي لم تغير منذ الاستقلال سوى ملامح الوجوه.
الرهان الحقيقي ليس في الانتخابات نفسها بل في قدرتها على أن تصبح أداة للتغيير الشامل والمستدام، محطة لإعادة بناء الدولة والمجتمع معاً وإحياء الأمل في أن يكون للشعب صوت حقيقي وتأثير حقيقي في صياغة مستقبله وكل ما دون ذلك سيبقى مجرد تكرار لما جربناه منذ عقود دوامة من الوعود الفارغة التي تنهار أمام واقع المواطن الصعب، وهو ما يفرض على كل مواطن أن يكون واعياً لدوره وأن يتفاعل مع العملية السياسية بطريقة نقدية مسؤولة لا تقبل بالمظاهر الشكلية بل تطالب بالجوهر.
إن الرهان الأصيل لبلدنا في 2026 هو أن يتحرر المواطن من الاستسلام للعبة السياسية الشكلية وأن يتحول من متفرج صامت إلى شريك فعلي في القرار صانع للسياسة ومسؤول عنها مؤمن بأن التغيير ممكن إذا توفرت الإرادة والإيمان بالحق والعدل كأساس لكل مسعى وأن يدرك أن أي تقدم حقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا بمشاركة حقيقية وبتحمل المسؤولية بشكل جماعي وفردي، وهو ما يجعل من الانتخابات المقبلة فرصة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة وخلق قاعدة صلبة لإصلاح سياسي واجتماعي مستدام كما يفتح الباب أمام مشروع وطني شامل يضمن العدالة والمساواة ويضع الإنسان في قلب العملية السياسية والتنموية والاجتماعية، وهو ما يمثل الرهان الحقيقي الذي يجب أن يحمله كل مشارك في العملية السياسية في 2026.