النبوغ المغربي
ليلة أمس الخميس 18 دجنبر 2025، لم يفز المنتخب المغربي بكأس العرب فقط. ما رأيناه أمس، ونحن نتابع نهائيا عربيا بين المغرب والأردن، كان شيئا أعمق من لقب رياضي يُضاف إلى الخزانة. لقد كان نهائيا يقوده من دكتي البدلاء مدرّبان مغربيان هما طارق السكيتيوي مع المغرب، وجمال السلامي مع الأردن.
هذه الصورة ليست معزولة عن سياق أوسع. قبل السكيتيوي والسلامي، جاء وليد الركراكي ليكسر، عمليا، عقدة “المدرب الأجنبي” التي حكمت المنتخب الوطني لسنوات. سلّمناه منتخبا مفكّكا، قبل أشهر قليلة من كأس العالم، ولم يكن أكثرنا تفاؤلا ينتظر أكثر من “مشاركة مشرفة”، فإذا بنا أمام مدرب يرفض دور “الحل المؤقت”، ويرفض أن يكون مجرد جسر نحو أجنبي قادم، ويضع لنفسه هدفا واضحا ويقول بصوت مسموع: إذا فشلت، سأرحل.
ربط وليد المسؤولية بالمحاسبة من تلقاء نفسه، بلا خطاب رسمي ولا ديباجة قانونية ولا فصول دستورية.
نفس الخيط نجده عند طارق السكيتيوي. ابن فاس، الذي عرف اللعب والاحتراف والتتويج ثم عاد إلى التكوين والتدرج في التدريب. فهو لا يقدّم نفسه كـ”صانع معجزات”، بل كمدرب يؤمن بالعمل الطويل والصبور. حين تشاهد منتخبا رديفا يلعب بثقة وهدوء وكأنه منتخب أول، فأنت تدرك أن المنظومة المحلية، بكل ما فيها من أعطاب، قادرة رغم ذلك على إنتاج كفاءات حين يُفتح أمامها حد أدنى من الشروط.
وعلى الجهة الأخرى من النهائي، جلس جمال السلامي، وهو يواصل ما بدأه الحسين عموتة في الأردن، ويمنح “النشامى” أسلوب لعب وشخصية جديدة.
كل هذا ليس ضربة حظ، بل نتيجة ثقة في إطار مغربي، ومنحه الوقت والمسؤولية. الأردن اليوم يقطف ثمار مدرسة تدريبية مغربية اشتغلت بصمت، كما قطفت من قبل منتخبات وأندية خليجية أخرى ثمار الاشتغال مع عموتة وأسماء مغربية عديدة.
هذه الأسماء ليست وحدها. ففي الخلفية، هناك محمد وهبي الذي بنى مساره بعيدا عن الأضواء كلاعب، وقريبا من قلب العلم والتكوين، في أكاديمية أندرلخت، قبل أن يعود إلى المغرب ويتولّى منتخب الشباب، فيقوده إلى وصافة إفريقيا، ثم إلى نهائي كأس العالم بعد إسقاط مدارس بحجم البرازيل وإسبانيا وفرنسا.
وهبي نموذج يثبت أن النبوغ المغربي ليس فقط مهارة فردية في المراوغة والتسديدة، بل أيضا قدرة على استيعاب أحدث ما في المعرفة الكروية، وإعادة إنتاجه وفق واقعنا المحلي.
وقبل وهبي، ومعه، يقف هشام الدكيك كحالة خاصة في كرة القدم داخل القاعة. رجل قضى سنوات وهو يُتهم بأنه “يحلم أكثر مما ينبغي”، ويُترك في ممرات الإدارات ينتظر توقيعا لمعسكر أو ميزانية لدورة تكوينية، ثم يعود إلى بيته خاوي الوفاض.
اليوم، يُصنَّف الرجل كأفضل مدرب في العالم في اختصاصه، ويقود منتخبا بات من بين العشرة الأوائل عالميا، بعد أن حصد ألقابا قارية وعربية وكأس قارات، ووصل إلى أدوار متقدمة في المونديال. ويختصر الدكيك في سيرته رحلة كاملة، من التهميش والسخرية، إلى العالمية، عبر طريق واحد لا يتغير: العمل، والتكوين، والإيمان بالمشروع، والصبر على العوائق.
حين نضع كل هذه الخيوط جنبا إلى جنب – الركراكي، السكيتيوي، السلامي، عموتة، وهبي، الدكيك… – تتضح الصورة: لسنا أمام نجاحات فردية معزولة، بل أمام ملامح مدرسة كاملة في التدريب. مدرسة مغربية في القيادة والتسيير، تختلف في الأسلوب والطباع، لكن يجمع بين رجالها شيء واحد: لم ينتظروا “المنقذ الأجنبي”، ولم يتعاملوا مع أنفسهم كدرجة ثانية في سلم الكفاءة، بل تصرّفوا كما ينبغي أن يتصرف أي مهني محترف في أي مكان في العالم، فيكوّن نفسه، ويراكم التجربة، ويطلب فرصة حقيقية، ثم يقبل أن يُحاسَب على النتائج.
هذا المعنى هو الذي يجعلني أرى في نهائي كأس العرب، وما سبقه من إنجازات، شيئا أكبر بكثير من مجرد فرحة عابرة. نحن أمام مختبر حيّ لفكرة “النبوغ المغربي” كما صاغها عبد الله كنون، لكن بلباس رياضي وبأدوات القرن الواحد والعشرين.
بدل الفقيه والعالم والمفكر، لدينا اليوم المدرّب الذي يغرس في لاعبيه قيم الانضباط والجدية واحترام الوقت والعمل الجماعي، ويوصلنا بهم إلى منصات التتويج.
المفارقة المؤلمة أن هذا النبوغ، الذي نعترف به بكل سهولة حين يتعلق الأمر بكرة القدم، نتردّد في الاعتراف به في مجالات أخرى.
نقبل أن يكون مدربونا قدوة في الاحترافية والانضباط، ثم لا نجرؤ على طرح السؤال نفسه في قطاعات التعليم والصحة والإدارة. لماذا لا نرى “وليد الركراكي” في تسيير مستشفى أو أكاديمية جهوية للتربية؟ لماذا لا نمنح “هشام الدكيك” ما يعادله من صلاحيات في مؤسسات صناعة القرار الاقتصادي أو المحلي؟ لماذا نصدّر كفاءاتنا الرياضية إلى الأردن وقطر وأوروبا، ونستورد في المقابل “خبرات” إدارية وتنموية لا نعرف عنها إلا ما يكتب في السير الذاتية المصقولة؟
ليس المطلوب أن نُسقِط منطق الملعب على الدولة حرفيا، فالحياة أعقد من مباراة كرة. لكن ما تقوله لنا تجربة المدرب المغربي اليوم واضح وبسيط: حين تُبنى المشاريع على أساس الثقة في الإنسان، وعلى تكوين حقيقي، وعلى وضوح في الأهداف، وعلى محاسبة جدية، يصبح المغربي قادرا على أن ينافس من يعتبرهم البعض “أسياد اللعبة” في أي مجال.
من حقنا أن نفرح، بعد هذا التتويج، أن نغني، وأن نملأ الشوارع بالأعلام وأن نُثقل المنصات بالصور واللقطات. ولكن من واجبنا أيضا ألا نترك المعنى العميق يتسرّب بين ضجيج الاحتفالات.
كرة القدم لم تُصلح وحدها صورتنا، بل كشفت لنا ما نملكه فعلا، وقدّمت لنا، على طبق من العشب الأخضر، برهانا حيا على أن هذا الوطن ليس محكوما إلى الأبد بلعب دور الضعيف التابع.
الكرة الآن، حرفيا ومجازا، في ملعب من يديرون الشأن العام: إما أن يروا في “نبوغ” المدرب المغربي مرآة لما يمكن أن يفعله المغربي في كل القطاعات إذا احترمناه وأحسنا تأطيره، وإما أن يكتفوا بتصفيق موسمي كلما رفع لاعب كأسا، ثم يعودون إلى عاداتهم القديمة في تدبير البلاد.