المغرب وأسئلة تدبير المقدّس

ظل الحقل الديني في المغرب، لعقود طويلة، جزءا من الحصون المنيعة للنظام السياسي، مجالا محفوظا مطوّقا بالقداسة، يقوم مقام الشرعية ويمنح الحكم حظوته الرمزية.
فإمارة المؤمنين لم تكن أبدا مجرد لقب دستوري أو إشارة بروتوكولية، بل كانت وما تزال قاعدة البناء السياسي، وسند المشروعية العليا التي تُستمد منها سلطة القرار. وحين تعرّضت الملكية لأقسى لحظات الامتحان في السبعينيات، استند الحسن الثاني إلى هذه الشرعية الروحية، فعاد ليقدّم نفسه أميرا للمؤمنين، حاميا للدين، جامعا بين السلطتين الزمنية والروحية.
ومنذ ذلك الحين، ظلّ المسجد والخطبة والزاوية والزمن الديني أدوات في هندسة الحكم، بما يضمن احتكار الدولة للسلطة الرمزية والدينية.
مع اعتلاء الملك محمد السادس العرش، دخل الحقل الديني مرحلة جديدة من إعادة الهيكلة: مجالس علمية أعيد تشكيلها، معاهد لتكوين الأئمة والمرشدات، ميزانيات متنامية تضاعفت استثماراتها عشرات المرات، وزوايا صوفية حُوّلت إلى شركاء رسميين في استراتيجية “الأمن الروحي”.
ولم يقف الأمر عند الداخل، بل جرى تصدير “النموذج المغربي” إلى إفريقيا وأوروبا، باعتباره وصفة للتدين الوسطي المعتدل، وسلاحا دبلوماسيا مكمّلا لسياسة الانفتاح. وبدا وكأن الدولة نجحت في إحكام قبضتها على هذا المجال، وأعادت تشكيله بما يخدم صورتها واستقرارها.
لكن ما لم يكن في الحسبان هو تغيّر المجتمع نفسه. فمنذ عقدين، أخذت التحولات الاجتماعية والثقافية تفكك جزءا من تلك الهيبة التي كانت تحيط بالمقدس. ومنحت الشبكات الاجتماعية الرقمية صوتا لمن كانوا خارج اللعبة، وفتحت بابا غير مسبوق لتداول قضايا كان يُعتقد أنها من المسكوت عنه.
وهكذا، تتابعت أحداث متفرقة لكنها متراكمة، لتكشف أن “المجال المحفوظ” لم يعد بمنأى عن النقاش.
يكفي أن نتوقف عند ورش إصلاح مدونة الأسرة. حين أعلن الملك في 2022 عن ضرورة المراجعة بما يحقق إنصافا للنساء ويحافظ على ثوابت الشريعة، ارتفعت التوقعات. جرى فتح مشاورات موسعة مع الحقوقيين والعلماء والسياسيين، لكن بعد أكثر من ثلاث سنوات، ما زال الملف معلقا.
لم يعد الأمر مجرد تعديل تقني لبعض الفصول، بل مسّ جوهر المرجعية نفسها: هل الحَكَم هو إمارة المؤمنين بما تمثله من سلطة فقهية عليا، أم المرجعية الحقوقية الكونية التي ترفعها الحركة النسائية منذ عقود؟ هذا التعليق الطويل كشف عن تردّد عميق: الدولة تخشى الاصطدام بالمحافظين إن هي استجابت للضغوط الحقوقية، وتخشى اتهامها بالتراجع إن هي تمسكت بالفقه التقليدي. وبين الحذرين، نشأ نقاش مجتمعي واسع غير مسبوق حول الإرث والولاية والنسب… أي قضايا كانت تُعتبر من الطابوهات.
وإذا كان ورش المدونة مثالا على الإصلاح المؤجل، فإن قرارات عزل الأئمة والخطباء شكّلت الوجه الآخر للجدل.
فمنذ إعادة هيكلة الحقل الديني، صارت الوزارة تعتمد العزل كأداة لضبط الخطاب. لكن السنوات الأخيرة أخرجت هذه القرارات من رتابتها الإدارية إلى دائرة الاحتجاج الشعبي، حين يُعزل خطيب لأنه انتقد مهرجانا غنائيا أو تطرّق لغلاء الأسعار، يتحوّل القرار إلى قضية رأي عام.
وحين طال العزل هذا الصيف رئيس المجلس العلمي لفكيك، محمد بنعلي، خرج النقاش عن السيطرة: فالمبرر الرسمي الذي تحدث عن “غياب متكرر” لم يقنع الكثيرين، واتجهت الأنظار إلى تدوينته عن غزة ورفضه للتطبيع.
هنا، صار السؤال أكبر من مجرد انضباط إداري، وأصبح صراعا بين شرعية المسجد وشرعية الدولة، بين صوت المصلين الذين يرون في الإمام ممثلا عنهم، وبين سلطة المركز التي تريد توحيد الخطاب.
لكن الحدث الذي فجّر النقاش على أوسع نطاق كان اعتقال الناشطة ابتسام لشكر بتهمة الإساءة إلى الذات الإلهية. لم يعد الأمر هنا يتعلق بخطبة أو غياب إمام، بل بمساس مباشر بجوهر المقدس.
تحركت مؤسسات إنفاذ القانون، وفتحت النيابة العامة المتابعة. لكن سرعان ما تحولت الواقعة إلى مواجهة فكرية حول الحدود بين الحرية والقداسة.
البعض رأى أن الدولة ملزمة بحماية المقدس وإلا فقدت شرعيتها الروحية، فيما اعتبر آخرون أن السجن عقوبة غير مقبولة في قضايا التعبير، وأن الخطر الحقيقي يكمن في فتح الباب أمام تقييد أوسع للحريات. وكشفت المقالات التي كتبت حول الموضوع، أننا لم نعد نناقش فقط نصا قانونيا، بل جوهر العلاقة بين الدين والدولة.
وفي زاوية أخرى من المشهد، انفجرت أزمة الزاوية البوتشيشية بعد وفاة شيخها جمال. فما كان يُنظر إليه كفضاء صوفي محصّن ضد التوترات، اهتزّ بدوره أمام الرأي العام.
صراع أبناء الشيخ الراحل على المشيخة، وتداول رسالة قديمة من وزير الأوقاف إلى أحدهم، كشفا عن عمق التدخل الرسمي في إدارة الزوايا. وفجأة، وجد المغاربة أنفسهم يتابعون تفاصيل خلاف داخلي في واحدة من أكبر الطرق الصوفية، ويطرحون أسئلة حول طبيعة العلاقة بين الزوايا والدولة، وعن حدود “الاعتدال الصوفي” الذي طالما رُوّج له كدرع ضد التطرف.
حين نضع هذه الأحداث جنبا إلى جنب، ندرك أن الصورة أكبر من مجرد وقائع معزولة. نحن أمام تحوّل في الوعي العمومي: الدين لم يعد مجالا مغلقا فوق السياسة، بل صار موضوعا سياسيا في ذاته.
تجد الدولة نفسها اليوم في معضلة دائمة: إذا شددت قبضتها تُتهم بالاستبداد، وإذا تردّدت تُتهم بالعجز. المواطنون أنفسهم لم يعودوا يتعاملون مع المسجد والزاوية والخطبة كفضاءات فوقية، بل صاروا يحتجون ويرفضون ويناقشون.
لقد تغيّر السياق: من “ربيع الفقهاء” سنة 2011 حين خرجوا بجلابيبهم للتظاهم ورفع المطالب الاجتماعية، إلى احتجاجات الريف 2017 التي انعطفت مع خطبة جمعة، وصولا إلى الاحتجاجات الأخيرة على عزل الأئمة، يتضح أن الدين لم يعد فقط حقلا للعبادة، بل فضاء للنقاش أيضا.
إن إمارة المؤمنين لم تفقد بعد مركزيتها، لكنها تواجه امتحانا جديدا: الشرعية لم تعد تُستمد فقط من موقعها التاريخي والروحي، بل صارت تحتاج إلى إقناع متجدد، وإلى توازن أدق بين حماية المقدس وضمان الحرية.
الزوبعة التي تهب داخل جلباب الملك ليست مؤشرا على انهيار، لكنها تكشف عن انتقال إلى زمن آخر: زمن لم يعد فيه المقدس بمنأى عن النقاش، ولم تعد فيه السلطة الدينية احتكارا صافيا، بل جزءا من معركة الشرعية والهوية والسياسة.