story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

المغرب الجميل

ص ص

بينما تعلو أصوات الانحطاط من كل صوب، وتغمرنا يوميا موجات من الرداءة والبؤس، وتنتشر على الأرصفة وفي الفضاءات العامة وفي عقول الناس مظاهر التسطح والتسفيه، وتخيم على سماء هذا الوطن سحابات ثقيلة من اليأس والإحباط… يصبح من قبيل المقاومة، لا، بل من صميم الواجب الأخلاقي والوطني، أن يرفع الإنسان رأسه للحظات، ويفرك عينيه جيدا، ليلتقط ما يمر أمامه من ومضات حياة، وشذرات أمل، وأصوات لا تزال تقاوم السقوط في مستنقع العبث.

لا يزال هناك بين الأزقة والجامعات والملاعب وقاعات الحفلات، وبين منصات السياسة والفضاءات الرقمية، من يصرّون على التمسك بذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بين الحياة والموت الرمزي، بين الاستسلام والكرامة، بين أن تكون شاهدا على انقراض وطنك، أو أن تكون جزءا من مقاومة خفية، صامتة أحيانا، صاخبة في أحيان أخرى، لكنها مستمرة، ولا تقبل الهزيمة.

نهاية الأسبوع الماضي كانت مسرحا حيا لهذه الحقيقة. حيث تقاطرت الوقائع والمشاهد التي تقول إن هذا البلد، رغم كل شيء، لا يزال ينبض بالحياة، بالنقاش، بالاختلاف، وبالمقاومة.

في قلب هذه الدينامية، استمرار معركة لا تخلو من دلالة، فتحها عدد من أساتذة علم الاجتماع الشباب ضد تنظيم مؤتمر دولي للسوسيولوجيا بالمغرب، بسبب مشاركة باحثين إسرائيليين يُجمّلون الاستيطان بمفاهيم علمية باردة.

هي لحظة فارقة، لأن المعركة لم تندلع في أزقة الإعلام أو أرصفة الشعارات، بل في معاقل المعرفة نفسها. وكانت النتيجة أن اضطر المنظمون، تحت ضغط هذا الوعي النبيل، إلى التعبير عن الاستعداد للتراجع أو تعديل مسارهم.

وفي قلب هذا المشهد، كانت حفلة الراب التي أحياها المغني المغربي الشهير “طوطو” في إطار مهرجان موازين ليلة السبت الماضي، وحمّلها البعض أكثر مما تحتمل من استيهامات وشعبوية.

حفلة موسيقية، بسيطة في ظاهرها، لكنها كشفت مجددا عن حجم الهوة السحيقة بين مغربين؛ مغرب يتنفس حرية الاختيار، ويقرر ما يريد سماعه، ويرقص على أنغامه الخاصة؛ ومغرب آخر يبدو متكلّسا، يصر على محاكمة الفن والمجتمع بمقاييس لم تعد موجودة إلا في مخيال محافظ، يحنّ إلى زمن الانغلاق.

هو نقاش بيزنطي بامتياز، لكنه في عمقه مؤشر حيوي على وجود مغرب لا يزال يتجادل، ويختلف، ويحتدّ، لكنه لا يسلّم بسهولة لمقصلة الرأي الواحد.

هذا المغرب نفسه الذي لطالما انقسم بين من كانوا يشتمون “الشعبي” و”الراي” في سبعينياتهم، قبل أن ينتهي بهم المطاف وهم يرقصون على أنغامه في أعراس أولادهم.

وفي لحظة أخرى، أكثر جماهيرية وأشد رمزية، كانت كل الأنظار مساء الأحد مشدودة إلى فاس، حيث نهائي كأس العرش بين نهضة بركان وأولمبيك آسفي. مباراة كرة قدم؟ نعم، لكنها في لا وعي المغاربة كانت أكثر من ذلك بكثير.

لقد تحولت المباراة إلى مرآة مكبرة تعكس مخاوف، وشكوك، وأحلام بلد بأكمله.

نهضة بركان، فريق قوي رياضيا بلا شك، لكنه ارتبط، عن حق أو باطل، في مخيال الرأي العام، بنفوذ مؤسسه ورئيس الجامعة الملكية لكرة القدم ووزير الميزانية، فوزي لقجع.

كان من شأن فوز الفريق بالبطولة والكأس والكأس القارية في موسم واحد أن يسكب الزيت على نار حديث الناس عن قوة المال والنفوذ في صناعة الانتصارات.

لكن أولمبيك آسفي، ذاك الفريق القادم من هوامش الهامش، أهدى أنصاره فوزا مزدوجا: الكأس الذهبية، ورسالة تقول إن الدفاع عن الحظوظ، وعدم الاستسلام أمام جبروت النفوذ، الحقيقي أو المتوهّم، لا يزال ممكنا. وأن الإيمان بالقدرة على قلب الموازين، ليس مجرد شعار فارغ.

على الميدان، لم يكن هناك ظالم ولا مظلوم. بركان لعب وكان يستحق الفوز أيضا، لكن آسفي كسب الرهان، ليخرج الجميع بشعور واحد: أن الإرادة أقوى من الحسابات، وأن كرة القدم، مثل السياسة، تبقى لعبة احتمالات إذا احترمت شروطها العادلة.

وفي ميدان السياسة، لم يكن المشهد أقل حرارة، وتابعنا في جوّ قائظ سيلا من الخطابات الجماهيرية في أنحاء مختلفة من البلاد.

عبد الإله بنكيران خرج بخطابه الناري المعهود من الدار البيضاء، يؤكد أن الملكية خط أحمر من منطلق الشرع والدستور، لكنه، كعادته، لم يتردد في جلد خصومه، ومعهم الدولة العميقة، حين تتورط في استغلال “الخطوط الحمراء” لفرض الصمت.

وفي أكادير، جاء دور إدريس لشكر ليروي رواية أخرى للمغرب. خطاب مفعم بالتاريخ والماضي المجيد للاتحاد الاشتراكي في سوس، لكنه مملوء أيضا برسائل سياسية عابرة للمحيط الأطلسي، إذ اعتبر أن ما يجري في غزة ومنذ 7 أكتوبر ليس مقاومة، بل مؤامرة، محمّلا إيران ومحور الممانعة مسؤولية خراب فلسطين، وهو موقف يعبر عن مغرب سياسي متعدد، يقبل أن تكون فيه زوايا النظر متباينة حدّ التناقض.

أما الختام فكان من بني تدجيت، هناك في أقصى الشرق، حيث صعد نبيل بنعبد الله إلى منصة بسيطة، تحفها شكاوى سكان يقطعون مئات الكيلومترات بحثا عن الماء أو الدراسة أو بطاقة تعريف وطنية.

من هناك، أطلق الرجل خطابا يجمع بين التحفيز على المشاركة السياسية، والدعوة إلى مقاومة المال الانتخابي، والتشبث بالأمل بدل السقوط في هوة اليأس.

ربما كانت أكثر جملة عبّرت عن مغزى كل هذا المشهد هي تلك التي نطق بها القيادي في حزب العدالة والتنمية، عبد العزيز العماري، حين قال إن اليأس من السياسة هو أكبر خطأ يمكن أن يرتكبه المغاربة.

نعم، هذا هو المغرب الجميل. ليس لأنه خال من القبح، بل لأنه قادر، وسط القبح والخيبة والخذلان، أن يولّد لحظات من الجمال، من المقاومة، من النقاش، ومن الإيمان بأن مغربا آخر ممكن.

مغرب يعيش فيه طوطو جنبا إلى جنب مع أساتذة علم الاجتماع الذين يقاومون التطبيع الأكاديمي، ومع سياسيين يصرخون، وجمهور كرة قدم يصنع المجد من قلب الهامش.

مغرب يعرف أن الخوف والاستسلام ليسا قدرا، وأن الصوت حين يرتفع، مهما بدا خافتا، يبقى قادرا على زلزلة جدران الصمت.

لذلك، نعم… ما زال هناك متسع للحلم.

ما زال هناك مغرب جميل.