المغربي العاري
أعادتني صور الشبان المغاربة الحفاة العراة وهم يجلسون أرضا في مشهد طافح بالإهانة، إلى فصول كتاب قرأته قبل سنوات، وبات اليوم من الكلاسيكيات التي تتناول وضع الانسان المعاصر في مواجهة الثورة الرقمية، وهو كتاب “الإنسان العاري.. الدكتاتورية الحفية للعالم الرقمي”، الذي يحمل توقيع كل من الكاتبين مارك دوغان وكريستوف لابي.
الفرق بين هذا الكتاب وصور أبنائنا الذين ظهروا في الصور المخزية، أن العنوان في الحالة الأولى كان من باب الاستعارة والتجسيد الرمزي لما خلّفته الحقبة الرقمية من كشف لخصوصيات الانسان المعاصر، بينما في حالة صور شبابنا الهارب، نحن أمام عري حقيقي، فعلي، نرى من خلاله الملابس الداخلية الحميمية وآثار الندوب والكدمات.
ورغم هذا الفارق بين عنوان الكتاب وصور الشباب الهارب من المغرب، إلا أن هناك تشابه حدّ التطابق بينهما، لكون الإنسان المغربي هو كائن عارِِ، مكشوف، مجرّد من كلّ حماية أو غطاء.
نحن عراة بالمعنيين الرمزي والمباشر للكلمة، بما أننا نعيش منذ أيام فصول مأساة كنا نخال أنها أصبحت من حكايات الماضي، يفرّ فيا الآلاف من شباننا وأطفالنا نحو الجبال والغابات والبحار، سعيا إلى الرحيل، دون أن نسمع موقفا، ولا تصريحا، بل لم يجد علينا من يحكموننا برٌبع كلمة، يخبروننا فيه أنهم هنا، معنا، يرون ما نرى، ويشعرون بما نشعر.
أكثر من أسبوع من المطاردات في الشوارع والأزقة والطرق السيارة والقطارات والحافلات والجبال والشعاب والفيافي… ولا وجود ل”حسّ” مسؤول أو مدير أو وزير أو غفير.
وبعد أكثر من أسبوعين من القلق والشكّ والحيرة أمام نداءات “الحريك” الغامضة، لا وجود لبلاغ رسمي واحد، أو معلومة رسمية، أو تصريح مسؤول. كأننا في دولة خلاء، تتقاذفنا روايات أقرب إلى الخيالات، بين من يزعم وجود مؤامرات أجنبية، ومن يوحي باندلاع تطاحنات داخلية.
كيف لا نكون عراة ونحن جميعا، “من الطرف للطرف” تتلاطمنا أمواج الشبكات الاجتماعية والمنصات الرقمية والأجندات الداخلية والخارجية… دون أن يلقي لنا مسؤول كبير أو صغير، طوق تواصل أو حركة توحي بوجود دولة حيّة.
نحن عراة لأن الحكومة سحبت من ذلك الطفل الذي صفق باب أسرته وانطلق نحو حدود سبتة المحتلة، منحة هزيلة كانت تتمثل في محفظة بها بعض من كتب ودفاتر، وباتت أمه الأرملة أو والده العاجز مطالبين بشرائها.
نحن عراة أمام شركات المحروقات التي يشارك رئيس حكومتنا في امتلاكها، فتتاجر معنا وتتاجر بنا، وتراكم الملايير على حساب قوتنا وقدرتنا الشرائية واقتصادنا، وعندما نضبطها متلبّسة بالدليل والحجة تفلت في المرة الأولى بعد تفكيك مجلس المنافسة الذي عاقبها، ثم تعود مدانة في المرة الثانية بغرامات “تصالحية”.
نحن عراة أمام سياسات فلاحية تستنزف مياهنا وتستحوذ على ضرائبنا بالدعم والإعفاءات، ثم تصدّر محاصيلها إلى الخارج تاركة إيانا نهبا للغلاء والجوع والعطش.
نحن عراة أمام سياسات ضريبية تحاصر جيوب الموظفين والأجراء وصغار المقاولين والمستثمرين، لتمنح التمويلات والقروض للمحظوظين والنافذين والمسيطرين.
لقد أراد كتاب “الإنسان العاري” أن يقول إن الإنسان أصبح عاريًا أمام التقنية الرقمية التي تستخدم بياناته دون وعيه الكامل، مما يخلق نوعًا جديدًا من السيطرة والتحكم، حيث يُستغل الفرد لأهداف خفية، دون أن يدرك أن حريته قد تم انتهاكها بشكل تدريجي وغير محسوس.
وجاءت صورة الإنسان المغربي العاري لتقول إننا لا نفقد آخر أسباب بقائنا فوق هذه الأرض الغالية فقط، بل لن نجد حتى قطعة قماش نستر بها عوراتنا إن نحن حاولنا ركوب الموت طلبا للحياة ونجونا.
تتمثل الخلاصة الأساسية لكتاب “الإنسان العاري” في كون التكنولوجيا الحديثة، خصوصًا الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، جرّدت الإنسان من خصوصيته وجعلته مكشوفًا وعاريًا أمام أنظمة المراقبة الإلكترونية.
لكن الأنظمة السياسية لدول مثل تلك التي ينحدر منها الكاتبان، لا يمكن، ولا يعقل، ولا يحدث حتى في الخيال، أن ينطلق جزء من مواطنيها راكضين نحو الحدود للرتماء في أحضان الأجنبي، دون أن تستنفر حكوماتها، وتجتمع برلماناتها، وتقطع شبكات برامج تلفزيوناتها، وينزل مسؤولوها إلى الميدان للتواصل والتوضيح.
الإنسان المغربي العاري لا يحتاج إلى تكنولوجيا رقمية ولا أنظمة معلوماتية.. بل هو مكشوف “من عند الله”، تستطيع الجزائر ببضع حسابات وهمية إخراج جحافل أبناءه من بيوتهم، واقتيادهم نحو جبال الفنيدق وسواحل الثغور المحتلة، كما تزعم بعض الأصوات التبريرية الفاشلة.
وكما في الكتاب، حيث يسلط الضوء على فقدان السيطرة على البيانات والخصوصية، فإن غياب التواصل الحكومي يعمق شعور المغاربة بفقدانهم السيطرة على مصيرهم السياسي والاجتماعي.
إن المغاربة “عراة” سياسيًا وإعلاميًا أمام فراغ تواصلي يجعلهم عرضة لتأثيرات سلبية خارجية وداخلية تزيد من حالة التوتر والاضطراب.. ونهبا لشعور عام بالترك والضياع يزيد من حدة التوتر ويفاقم الشعور بالعزلة، حيث يجد المواطن نفسه “عاريًا” بلا دفاعات أمام واقع معقد وغامض
عندما لا توفر الحكومة إطارًا واضحًا للتفسير أو تهدئة الأوضاع، تصبح المساحة مفتوحة للتكهنات، والشائعات، وحتى التأثيرات الخارجية التي قد تتلاعب بمشاعر الناس وتوجهاتهم.
وفي ظل هذا “العري” السياسي، تتحول الوعود والمشاريع الطموحة التي تعلن عنها الدولة إلى مجرد شعارات جوفاء في نظر مواطنين يفتقر واقعهم اليومي إلى الشفافية والإجابات.
لهذا نحن المغاربة عراة بالفعل، لا بالإيحاء.