المصباح شْعْل

هناك محطات في مسار الأحزاب تكون أكبر من أن تختزل في توصيفات من قبيل “ناجح” أو “موفّق”.
المؤتمر التاسع لحزب العدالة والتنمية الذي انعقد في اليومين الماضيين، لم يكن مجرد مناسبة تنظيمية لتصفية أجواء داخلية، بل كان، لمن أمعن النظر ولم يكتفِ بملامسة السطح، عملية انبعاث جديد بكل المعاني الثقيلة لهذه الكلمة.
هذا المؤتمر بالضبط لا تليق به كلمة “ناجح”، لأن جل مؤتمرات الأحزاب السياسية تكون ناجحة حين تستكمل برنامجها ولا تسقط في معركة صحون طائرة أو كراسي متناثرة.
العدالة والتنمية قفز بمؤتمره التاسع بتفوق حتى على نفسه، فوق هوة سحيقة كانت ستلتهمه وتحوله إلى رماد تذروه رياح السياسة والتاريخ.
بعيدا عن بعض العنتريات في التحليل والأستاذية في التفاعل، على الجميع ان “يجلس أرضا” ويعبر بوضوح، كما فعل الأمين العام لحزب الحركة الشعبية محمد اوزين، عن إعجابه بشكل وحجم وتفاصيل انعقاد المؤتمر.
من حيث الشكل، السياسة في الأصل هي تدبير للرمزيات وتعبئة لها وشحذ للهمم بواسطتها، وهي النقطة التي كانت بارزة وقوية وباهرة في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر.
العقل الذي قام بصياغة الرسالة المراد تبليغها من خلال فعاليات الجلسة، أقل ما يمكن ان يقال يوصف به هو الدهاء، لأنه أنتج ضفائر دقيقة، نسجت من خيوط يحسبها البعض متعارضة او متناقضة.
العلم الفلسطيني رقص جنبا إلى جنب مع العلم المغربي، وكل من الدراعة والملحفة الصحراويتان بصمتا المشهد جنبا إلى جنب مع الجلباب المغربي والبذلة العصرية، والأناشيد والهتافات الدينية رافقتها أغان طربية وأخرى راقصة دون تفريط في المعنى… هكذا كان بالإمكان مشاهدة الشيخ السلفي الحسن الكتاني يجلس أمام أعضاء مجموعة السهام وهي تضرب الدفوف، وتنصت إلى خطابات فلسطينية من الضفة والقطاع.
ثنائية المجتمع والدولة حضرت بكل التوازن الدقيق الممكن، شعارات سقوط التطبيع تقابلها مقتطفات من خطابات الملك كانت الشاشة الكبرى في خلفية المشهد تعرضها، وجلها حول قضية الصحراء.
لا وحدة للتراب دون وحدة للهوية، ولا مجال لوهم الاختيار بين مقاومة التطبيع والدفاع عن الصحراء.
وإذا كانت لحزب العدالة والتنمية من قوة تميزه عن باقي الأحزاب منذ تأسيسه منتصف التسعينيات، فهي تحويله لكل “خشونة” يتعرض لها إلى ضربات جزاء ينفذها بنجاح، خاصة عندما يحضر ميسي الفريق (بنكيران).
فقد تلقى الحزب في هذا المؤتمر ضربتي جزاء فوق طبق من ذهب، واحدة من وزارة الداخلية وأخرى من وزارة الخارجية.
الداخلية لأنها رفضت صرف الدعم العمومي الخاص بتنظيم مؤتمرات الأحزاب السياسية، رغم انها ظلت تصرف له الدعم السنوي بانتظام منذ مؤتمره الاستثنائي لسنة 2022، ولو كان وضع الحزب غير قانوني لتوقف عنه هذا الدعم كما كان الحال مع حزب الاستقلال الى وقت قريب.
لكن مصالح وزارة الفتيت أبت إلى ان تمنح مؤتمر تثبيت بنكيران زخما إضافيا وجرعة تلاحم داخلي يتجاوز ما هو معنوي إلى المادي.
أما وزارة الخارجية فأهدت الحزب وثيقة براءة جديدة من شبهة التطبيع حين رفضت منح التأشيرة لضيوفه من حركة حماس للحضور إلى بوزنيقة، حيث أثبتت من جديد أن المسافة كبيرة قرارات الدولة واختيارات الحزب.
وحتى وهو يستضيف كلمة حركة المقاومة عبر تقنية الفيديو عن بعد، التي ألقاها فوزي برهوم، كان الحزب يمسك بيد الدولة ويستضيف كلمة أولى لمصطفى البرغوتي من معقل السلطة الفلسطينية، رام الله.. “آ دي حگي وَا دي حگ ربي”، كما قال التعبير الخليجي.
بخصوص نتائج أو “مخرجات” المؤتمر، فإنها تكاد تكون مطابقة ل”المدخلات”. لست في حاجة إلى تذكير أي كان بالشكل النموذجي الذي يواصل هذا الحزب تقديمه من حيث تطبيق الديمقراطية الداخلية، وهذا أمر تجدّد تأكيده من المؤتمرات المحلية التي قام بها الحزب تحضيرا لهذا المؤتمر ووصولا إلا انتخاب الأمين العام.
هناك لمسة “إسلامية” في المساطر، هذا صحيح، لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال مخالفة روح الفكرة الديمقراطية التي تفيد الاحتكام إلى تصويت المعنيين بالأمر بطريقة حرة ونزيهة.
أما عن التجديد لابن كيران، فهذا هو أبرز مؤشرات نجاح المؤتمر، ليس لأن الرجل خارق أو ضروري أو لا بديل عنه، بل لأن منطق الأشياء يقتضي أن المؤتمر تتويج لمسار وليس بداية، والاختيار الذي قام على دعوة ابن كيران للعودة وتسلّم مقاليد تدبير الحزب عقب النكسة الانتخابية والتنظيمية للعام 2021، نجح وبتفوّق كبير، ليس لأن الحزب عاد إلى صدارة المشهد السياسية أو الانتخابي، بل لأنه أثبت أنه قادر على البقاء، ومن لا يدرك أن سؤال البقاء كان مطروحا على هذا الحزب بعد هزيمة 2021، عليه أن يراجع أوراقه.
كنت شخصيا، وما زلت، ممن يردّدون في سياقات تنطلق من معطيات نظرية، أن الحزب كان أمام فرصة تاريخية لتجديد الدماء والسماح ببروز مشروع سياسي جديد يسلّم المشعل للأجيال اللاحقة عن الجيل المؤسسة.
و”عبرات عليّ” القيادية في صفوف الحزب، أمينة ماء العينين، عندما ردّت علي في حلقة برنامج “من الرباط” التي استضفناها فيها مؤخرا، بالقول إن الكلام سهل عكس خوض التجربة.
الوصفة التي تم تجريبها منذ 2022 نجحت في استعادة، ولو نسبية للثقة، ورصّ الصفوف، والقيام بمناورات انتخابية ناجحة في الانتخابات الجزئية، عندما أصبح الحزب الثامن رسميا يواجه ثلاثي الأغلبية المتحالف والمسنود والقوي بالمال والأعيان. والقول المأثور يفيد أن المرء لا يغيّر فريقا ناجحا.
ورغم أنني أحجمت عن التعبير عن ذلك قبل المؤتمر، تقديرا مني لحدود وظيفة الصحافة، حتى في التعليق والتعبير عن الرأي، لأن “دخول الشبوقات” لا يندرج ضمن التأثير الحميد للعمل الصحافي؛ فإن استكمال عملية “إعادة الإعمار” كانت تتطلب بقاء ابن كيران لولاية ثانية.
بل إن الحزب تجاوز في هذا المؤتمر حتى إشكالية خلافة ابن كيران، وترقية إدريس الأزمي إلى مرتبة نائب الأمين العام، بعدما نافس بقوة على منصب الزعيم منذ المؤتمر السابق، تجعلنا دون أن نخشى المجازفة، أمام تأهيل رسمي لوزير الميزانية السابق ليكون الأمين العام المقبل للحزب.
الرجل بات يجمع بين قبول واسع في صفوف أعضاء الحزب ودعم أمينه العام التاريخي، ابن كيران.
لكن النجاح الأساسي والأهم الذي حقّقه حزب المصباح في مؤتمره التاسع لا يكمن في انتخاب قيادته، ولا تعزيز صفوف أمانته العامة باسم من القيادة التاريخية هو محمد يتيم، أو من قيادة المرحلة السابقة مثل محمد أمكراز، ولا احتفائه الكبير وبفلسطين وقضيتها، في عملية “تطهير” جديدة للذات الحزبية من خطيئة توقيع اتفاقية التطبيع…
النجاح الأساس والأهم هو إحياء الآلة التنظيمية.
صحيح أن هزيمة 2021 تعود لأسباب سياسية منها عداء واضح من جانب السلطة، وتوقيع التطبيع، وتمرير بعض القوانين التي لا يقبلها العقل الأيديولوجي الإسلامي و… لكن الطابع الفرجوي والمذهل للسقوط لا يعود إلى ذلك كلّه، بل يعود إلى ضعف وتفكّك الآلة التنظيمية، التي جعلت الحزب عاجزا عن تقديم مرشّحين، في الانتخابات الجماعية، فبالأحرى التوفّر على مراقبين في آلاف المكاتب، وهو ما أدى إلى حصول ما يشبه الاجتثاث.
سبق لي أن لاحظت وكتبت عن انتخابات دائرة فاس الجزئية شهر أبريل 2024، كيف أن الحزب تقدّم كثيرا من حيث عدد الأصوات مقارنة بتراجع واضح لأحزاب الأغلبية الحكومية، والسبب هنا لم يكن سياسيا فقط، بل كان تنظيميا أيضا، حيث بدا أن البيجيدي بدأ يسترجع أداءه الميداني في تغطية المكاتب والحضور الميداني.
في السياسة، كما في الحياة، البقاء للأقوى… ولكن ليس بالمعنى البدائي للقوة الغاشمة، بل بمعناها العميق: قوة التماسك، وقوة الفكرة، وقوة التنظيم.
لقد خرج العدالة والتنمية من مؤتمره التاسع مثلما يخرج المصباح من عتمة التيه، مضيئا من جديد في زمن يتسابق فيه الجميع إلى الانطفاء.
قد يختلف المتابعون حول التفاصيل والوجوه والكواليس، لكن المؤكد أن المصباح اليوم لا يضيء فقط لأنه اشتعل، بل لأنه استعصى على الرياح التي هبت لإطفائه. وهذه، وحدها، قصة سياسية تستحق أن تُروى.