الكان.. We Can
يستحقُ هذا المغرب الآن أن ننظر في الجزء المملوءِ من كأسه. يستحقُ كل مسؤول في هذا الوطن يقوم بعمله على أكمل وجهٍ إشادةً.
وظيفة الصحافي أن يشير، أغلب الوقت، إلى الأجزاء الفارغة من كؤوس تدبير الشأن العام. هذا لا يجعل الصحافي عدواً أو “نذير شؤم”، مادام يؤدّي مهمة الإشارة إلى النواقص بكل مهنية، والتنبيه إلى الاختلالات بمسؤولية، بغرض التصويب ودفع المؤسسات إلى ملءِ ما تبقى من أجزاء فارغة. وأيضا، هذا لا ينتقص من قيمة عمل المؤسسات ولا تبخيس إنجازاتها.
يعيش المغرب، بعد أكثر من 10 أيام عن انطلاق كأس إفريقيا للأمم لكرة القدم، قصة نجاحٍ. يحصدُ الإشادات من كل جانبٍ، خاصة من الزوار الأجانب، الذين لم تتوقف تعليقاتهم الإيجابية بشأن التطوّر الحاصل هنا. يُشعِرك الأمر بفخرٍ، وتعيد معه اكتشاف المغرب وتفاصيلَ، لا تنتبه لها عادةً، بأعين الآخرين، المنبهرين بما عليه بلدنا.
كان افتتاح الكان ناجحاً رغم ما فرضه الطقس الماطر من إكراهات. سوَّقَ مغرباً حديثاً، معتدّاً بنفسه، وواثقاً، ومُتَكيِّفاً، ويستفيد من أخطائه. أضفى حضور ولي العهد مولاي الحسن بعداً آخر للحدث بكل رمزيات الحضور الراسخة، الممزوجة بعفوية ظاهرة، تخدم أهدافاً تواصلية غاية في الأهمية بين يديْ مغربِ المستقبل، الذي تحتاج فيه الدولة إلى أن تحاوِر بكافة الوسائل شبيبةً مغربية خرجت قبل أشهر للاحتجاج. حضور ولي العهد خدم هذه الاستراتيجية التواصلية بامتياز.
أيضا، تصادفت بداية الكان مع التساقطات مطرية قوية يشهدها المغرب بعد سنواتٍ عجاف. أُثيرت المخاوف، حتى قبل انطلاق كأس إفريقيا، بشأن قدرة أرضيات الملاعب على الصمود. كان من شأن الفشلِ أن يُفسِد المشهد كله. في البال قصة إلغاء مباراة الترتيب في كأس العرب في قطر، التي تتوفّر على بنية تحتية بين الأكثر تطوّرا في العالم، ومع ذلك غرقت أرضية ملعب خليفة الدولي بعد ساعات قليلة من التساقطات. وفي البال أيضا ما جرى خلال كأس أمم أوروبا في ألمانيا (يورو 2024)، ووقائع أسقف مدرّجات الملاعب التي تحوّلت شلالات فوق الرؤوس.
في المغرب، أُجريت المباريات تحت الأمطار المستمرة منذ أيام، وبكثافة. إلى الآن، تبدو الأمور أكثر من رائعة. بل صارت التساقطات جزءاً من جماليةٍ ترصدها الكاميرات، وتضفي لمسةً، بدل أن تكون “نكبة”.
بعيداً عن أرضيات الملعب، في المدرّجات وخارج الملاعب، تحضر بكثافة مشاهد حفاوة مغربية بالوافدين على المملكة من سكان القارة السمراء ومن خارجها. كثيرٌ من هذه الحفاوة عفويٌ، ويعبّر عن صميم شخصية مغربية مسالمة ومرحِّبة، ومتقبِّلة للتنوّع، وتقدّر معنى الضيافة، بكل أبعادها الإنسانية. أفارقة من جنوب الصحراء تحدثوا بدفءٍ عن اكتشاف مغربٍ متطوّر، يمثل أحد النماذج في قارة لا تزال تعاني.
لم تحتج الدولةُ إلى حملات تواصلية لـ”تأهيل” المواطنين بشأن كيفية التعامل مع زوار المملكة. وكل حدثٍ من هذا النوع لا يكتمل نجاحه إلا بإسهام المواطنين فيه.
الأمر أشبه بـ”بروفا” لما ستكون عليه الأمور في 2030، حين يستقبل المغرب، بالاشتراك مع إسبانيا والبرتغال، نهائيات كأس العالم.
في قلبِ هذه المشهدية، تبرزُ صورة تآلف بين مواطنين جزائريين ومغاربة تهدم حيطاناً من الإساءات سعى “مُشْعِلو النيران” إلى جعلها واقعاً يؤذي مستقبل العلاقة بين شعبين جارين.
هذا وحدهُ مكسبٌ كبير يخدم المغرب وسياسة “اليد الممدودة”. يعزّز صورة المغرب الواثق من نفسه، الذي يميّز جيّداً بين إساءات الدولة الجزائرية وعدوانها على الوحدة الترابية للمغرب، وبين الشعب الجزائري.
جزائريون كانوا منصفين بالإشارة إلى التحولات الإيجابية التي يشهدها المغرب، وبنية تحتية متطورة، وكانوا سفراءَ ساهموا في تهديم سردية أحقادٍ يُراد أن تستحكم هناك وهنا، بعد سنوات طويلة من الكذب على الجزائريين بشأن ما عليه المغرب. ومع ذلك، هناك في الجزائر ظهر بعضُ الإعلام، قبل الكان وخلاله، منفصلاً عن الواقع ومريضاً بالتبخيس، وهو يحاول البحث عن صورة إساءة، وحين لا يجدها يختلقها.
بدا واقع العلاقة بين المغاربة والجزائريين ( على الأقل على أرض المغرب) مغايراً تماما لكل تلك العدوانية في شبكات التواصل الاجتماعي، التي لم تعد تُقِيم اعتباراً لتاريخ مشترك، ولأواصر لا يمكن أن تُقطع. للتاريخ أحكام، وللجغرافيا إلزامات.
وجد الجزائريون ترحاباً يليق بالشعب المغربي ودولته. لا يهمُّ كثيرا ما يحدث في السياسة المتقلّبة، ولا ما يجري داخل المستطيل الأخضر، ولا حتى في المدرّجات. لم تستحكم عقلية الانتقام هنا على إساءات جرت على أرض الجزائر بفعل التحريض المستمر. ما سيبقى هو ودٌ كبيرٌ يظهره المغاربة لمواطنين جزائريين لا ينبغي تحميلهم جريرة سياسات دولتهم. ويهمّ أيضاً احترام كبير أبداه جزائريون للشعب المغربي ودولته.
“خاوة خاوة” التي كادت تُمحى من التداول في شبكات التواصل الاجتماعي تنبعث في الواقع، وترمّم أضراراً لا مصلحة للمغرب فيها، كما لا مصلحة للجزائريين في التمكين لها. ومَنْ عينُه على المستقبل لا ينشغل بالأحقاد. وعينُ المغرب على المستقبل، وينجح باقتدار.
الآن، تدركُ أكثر أن الفشل ليس “قَدَراً”، وأننا في المغرب “نستطيع” أن نبني وطناً يصون كرامة المغاربة. هذا النجاح في الكان أثبت أنه (We Can)، وأن النجاح يمكن أن يتحقق في أكثر من مجال يعاني قصوراً. من نجح في تشييد منشآت رياضية بمواصفات محترمة تصمد أمام الطقس الماطر، قادرٌ على تجنيب آسفي الفيضان. ومن تفوّق في بناء مركب مولاي عبد الله المبهر يستطيع تأمين مستشفى يليق بكرامة المغاربة. ومن تمكّن من تأهيل البنية التحتية في المدن الكبرى، بإمكانه أن يفكّ العزلة عن مغرب آخر خارج التنمية.
من حقّ مواطني هذا البلد أن تكبر آمالهم، وأن يرفعوا سقف مطالبهم، وهم يرصدون كل هذه التحوّلات. من حقّهم أن يطالبوا بالكرامة، وأيضا بالحرية والديمقراطية. وأيضا، من حقّ الدولة الآن أن تتحدث عن نجاح، وأن تلتفت أكثر إلى أن ينال كل الشعب من عائدات التنمية، خاصة وأنها لا تعيش “حالة إنكار” مادامت تُقرّ بـ”مغرب السرعتين”، وتعترف بـ”فجوة متنامية بين المركز والهامش”.
قصارى القول
إن توفّرت الإرادة السياسية ( وقد توفّرت في إنجاح الكان وبعده المونديال)، يقطع البلد نصف الطريق إلى النجاح. في المغرب، هذه الاستحقاقات الكبرى تحظى برعاية ملكية مباشرة، وهو ما يجسّد معنى الإرادة السياسية. وبعد الإرادة السياسية لا بدّ أن تتوفّر الرؤية الدقيقة أو المشروع القابل للتنفيذ، وأيضا توفّرت. ولا يحتاج الأمر بعد ذلك إلا إلى موارد وأدوات تنفيذ، ورجالات تحمل المشروع.
قصة النجاح التي نكتب عنها توفّرت فيها الإرادة السياسية، والرؤية، ورُصِدت لها الموارد وحَمَلَة المشروع. هذا بالضبط ما احتاجه المغرب لتنظيم الكان، ويحتاجه لمنع فيضان آسفي، وللحيلولة دون سقوط عمارة فاس، ولإعادة إسكان جميع ضحايا زلزال الحوز، ولتمكين المغاربة من استشفاء كريم، وتعليم جيّد، وبنية تحتية تشمل كل المغاربة حيثما وُجدوا.
Yes We Can