“الفراقشية”.. في البرلمان

لا أقصد هنا انتماء جزء من ممثلي الأمة إلى هذه الفئة المسماة “الفراقشية”، والتي احتفت بها دراما رمضان هذه السنة، بل أقصد تحوّل موضوع استيراد الدواب الموجهة لإنتاج اللحوم الحمراء إلى قضية سياسية-دسنورية.
قد يبدو من السخرية أن يتحول الجدل حول “من استورد كم رأسا من الغنم أو البقر؟” إلى نقاش دستوري وسياسي من العيار الثقيل داخل المؤسسة التشريعية المغربية.
لكن واقع الحال في بلادنا لا يتوقف عن تذكيرنا بأن الشيطان له أكثر من شهادة سكنى في التفاصيل، وأن الحقوق البسيطة حين يتم إنكارها، يمكن أن تفتح الباب نحو مساءلات قد تصل إلى أعلى مستويات القرار السياسي.
من هنا، تكتسب مبادرة الفرق البرلمانية الثلاث: التقدم والاشتراكية، والحركة الشعبية، والعدالة والتنمية، قبل أن يلتحق بهم الاتحاد الاشتراكي، لتشكيل لجنة لتقصي الحقائق في موضوع الدعم العمومي الموجه لاستيراد المواشي، أهميتها القصوى.
ليس فقط لأنها تضع اليد على ملف شائك يهمّ المال العام، بل لأنها تعيد الروح لنصوص دستورية بقيت لسنوات حبيسة الجدران المذهبة لمجلس النواب.
السؤال الذي فجّر كل شيء كان بسيطا: كم صرفت الدولة من أموال الشعب لدعم استيراد الأغنام والأبقار؟ فكان الجواب ضمن تقرير رسمي قدّمته الحكومة للبرلمان شهر أكتوبر الماضي، يقول إن الأمر يتعلّق ب1300 مليار سنتيم، بين إعفاءات جمركية وضريبية، ثم خرج رئيس مجلس النواب، راشيد الطالبي العلمي، بتصريح يقول إن المبلغ لا يتجاوز “300 مليون درهم”، قبل أن تردّ عليه وزارة الفلاحة برقم يرفع التكلفة إلى 437 مليون درهم، وهذه كلها أرقام ووثائق رسمية.
وبين تصريح لمعارض وتدوينة لآخر، انكشفت مساحة هائلة من التعتيم وغياب الشفافية، بل وانعدام الحد الأدنى من احترام ذكاء الرأي العام.
هنا لم يعد الخلاف تقنيا حول نسبة الضريبة أو قيمة الإعفاء الجمركي، بل أصبح قضية رأي عام تتعلق بحسن التدبير، وتكافؤ الفرص، وحماية المال العام، ونجاعة التدبير، خاصة أن وزير الميزانية فوزي لقجع وقف أمام البرلمانيين وقال إن الاعتراف بالخطأ فضيلة، وإن الدعم الذي صرف لمستوردي أضاحي العيد لم يحقق غايته.
من هنا يسقط الموضوع في حلبة النقاش الدستوري، حيث جاء الفصل 67 من دستور 2011 بحمولة قوية لصالح تفعيل الرقابة البرلمانية، فخفّض النصاب القانوني لتشكيل لجان تقصي الحقائق، وجعل ضمن صلاحياتها جمع المعلومات وإطلاع المجلس على النتائج، بل وأجاز إحالة التقارير على القضاء.
ومع ذلك، فإن حصيلة مجلس النواب في هذا الباب منذ 2011 تظل أقرب إلى “الصفر الرقابي”، بل إن القضية التي أخضعها مجلس المستشارين لهذه المسطرة الرقابية، والمتعلقة بصناديق التقاعد، انتهت بأحكام بالسجن على صحافيين نشروا أخبار صحيحة حول أشغالها، ومعهم برلماني-نقابي.
ما سبب الفشل هذا؟ وهل هو في الدستور أم في السياسة؟ أو كما قال أستاذ للقانون الدستوري “الدستور متقدم لكن الثقافة السياسية متخلفة”، ومن ثم فإن تفعيل هذه اللجان ليس قرارا قانونيا، بل قرارٌ سياسي بامتياز؟
الواقع أن مبادرة تشكيل لجنة تقصي الحقائق في هذا الملف، تُعدّ أول محاولة جدية منذ سنوات لإحياء إحدى أهم أدوات الرقابة الدستورية. وإذا تم بلوغ النصاب المطلوب (131 نائبا الذي يساوي ثلث أعضاء المجلس)، فإن البرلمان المغربي يكون قد بعث برسالة قوية مفادها أن المؤسسة التشريعية ما زالت قادرة على استعادة جزء من المبادرة السياسية.
لكن إن فشل المشروع، وهو احتمال وارد نظرا لعدم توقيع مكونات من الأغلبية مثل الاتحاد الدستوري، وتحفظ أطراف أخرى، فإن ذلك سيكون فضيحة مضاعفة: فضيحة في استيراد اللحوم، وفضيحة في عجز ممثلي الأمة عن حماية المال العام، أو حتى طرح الأسئلة الحقيقية حوله.
إن قضية “الفراقشية” ليست مجرد ملف مالي محصور في أرقام، بل هي لحظة انكشاف لحالة من التواطؤ المؤسساتي، حين يُمنع الرأي العام من معرفة الحقيقة، وتُسخّر أدوات الدولة لتجميل قرارات فاشلة أو غامضة.
فهل يحتاج البرلمان إلى أكثر من تصريح متضارب بين وزراء ومسؤولين كبار، كي يدرك أن هناك ما يجب التحقيق فيه؟
من المؤسف أن يُحوَّل الفصل 67 من الدستور إلى بند زينة، وأن تبقى لجان التقصي رهينة التوافقات السياسية لا المصلحة العامة. لكن ما يُثير القلق أكثر، هو احتمال أن يكون هذا الجدل برمته مجرد “بروتوكول تنفيسي”، يُستهلك في الإعلام والفايسبوك، ثم يُطوى دون أن يُحاسَب أحد، ولنا في السوابق أمثلة عديدة.
السيناريو المحتمل الأول، وهو الأمثل، أن تنجح المعارضة في كسب دعم نواب من الأغلبية، ويتم تشكيل اللجنة، فتضع يدها على الحقائق، وتصدر تقريرا واضحا، قد يُحال على القضاء.
أما السيناريو الثاني، وهو المرجح، فهو أن يُجهض المشروع بسبب عدم اكتمال النصاب، فتُرفع الجلسة، وتُطوى الصفحة، ويُترك المواطن المغربي مجددا ضحية التعتيم.
أما السيناريو الثالث، فهو السيناريو الرمادي: أي أن تُشكّل اللجنة شكليا، وتصدر تقريرا إنشائيا لا يُحيل على أحد ولا يرتب أي مسؤولية، كما حدث مع تجارب سابقة، ولنعد مثلا إلي تقرير المهمة الاستطلاعية حول توزيع المحروقات.
إن قضية الدعم العمومي لاستيراد المواشي لا تخص فقط أسعار اللحوم أو عدد المستوردين، بل هي لحظة اختبار حقيقية ستجيبنا عن سؤال: هل بإمكان مؤسسة دستورية أن تفرض رقابتها في موضوع يتعلق بالمال العام؟ وهل البرلمان في المغرب سلطة، أم مجرد صدى للسلطة؟ وهل يمكن أن نحلم بتقرير برلماني يُتابع على ضوئه مسؤول أو يُعاد فيه توجيه السياسة العمومية؟
أسئلة لا تبحث عن إجابات، بل عن إرادة سياسة.