الفتح الكهربائي للأندلس

عادت إسبانيا منذ زوال أمس الإثنين 28 أبريل 2025، وطيلة ساعات اليوم، إلى القرن التاسع عشر، لا بآلة زمن، ولا برغبة في استحضار زمن الشموع والمصابيح الزيتية، بل بانقطاع مفاجئ وغير مسبوق للكهرباء.
لا إشارات مرور، ولا مترو أنفاق، ولا مصاعد، ولا أنترنت، ولا محطات وقود، ولا تحويلات بنكية، ولا حتى مياه جارية في بعض الشقق ذات المضخات الكهربائية.
لقد توقّفت عجلة الزمن المعاصر، وظهرت الهشاشة العارية لحضارة مبنية على الضوء الاصطناعيفي دقائق معدودة، خرج الناس من المكاتب والمتاجر يجرّون ذيول الارتباك، لا يعرفون ما إذا كان السبب عطبا تقنيا أو ضربة عدوانية أو عقابا سماويا.
توقفت المدن عن الزحف، وبدا أن إسكات التيار الكهربائي يُسكت كل شيء: الآلة، والسوق، والسيادة.
لم تكن العودة إلى الخلف اختيارا ثقافيا أو فلسفيا، بل حقيقة سياسية وتقنية، جعلت الإنسان الأوروبي، الذي طالما رأى نفسه محصنا داخل أسوار الناتو والاتحاد الأوروبي، يكتشف أنه يسكن بيتا من زجاج، ويعيش على سلك رفيع من نور.
ما وقع في شبه الجزيرة الإيبيرية أمس، لم يكن مجرّد اضطراب في شبكة كهربائية عابرة للحدود، بل كان صفعة كونية في وجه الحضارة الحديثة، وضوءا خافتا سلّطته الأقدار، على ملامح الإنسان المعاصر وهو يترنّح في ظلام هشاشته.
في لحظة واحدة، تراجعت شبه الجزيرة الإيبيرية قرونا من التقدم بخطوة واحدة إلى الوراء.
توقفت القطارات ضمن باقي وسائل النقل الجماعي، وتعطلت إشارات المرور في وجه السيارات المتمتعة بامتياز استعمال مصدر أحفوري للطاقة، وسقطت أبراج شبكة الاتصال كأنها أعواد قشّ، وعلقت المصاعد في أفخم بنايات مدريد، بينما تحوّلت محطات الوقود إلى لوحات عاطلة لا حياة فيها، والمتاجر الكبرى إلى كهوف مظلمة بلا آلات، وبلا حواسيب، وبلا نظام.
لم تكن البرتغال وإسبانيا وحدهما في تلك اللحظة، بل نحن جميعا؛ أي كل من ظنّ يوما أن الحياة باتت تحت سيطرته، وأن الأزرار الذكية تقيه غضب الطبيعة أو جهل الأنظمة أو عبث التكنولوجيا.
لم يكن العبث الحقيقي في توقف الكهرباء، بل في المشهد الذي رسمته خطوط التوتر العالية الممتدة من شمال المغرب إلى جنوب إسبانيا، حين عبرت الطاقة من الضفة الجنوبية “المتخلفة”، إلى الضفة الشمالية “المتحضرة”.
لا شيء كان أكثر سخرية من هذا المشهد: بلاد كانت تحتفل على أنقاضنا قبل قرون، عادت لتستنجد بنا كي لا تغرق في الظلام.
سخرية القدر لا تحتاج إلى قلم روائي لتحكى، فقد فعلها المهندس المغربي حين ضغط على الزر الصحيح، وأعاد النور إلى الأندلس.
نعم، لقد أعاد المغاربة النور إلى الأندلس. بعد قرون من الطرد والحصار والتهجير والطمس، ها نحن نمد اليد من الجنوب، لا سيوف فيها ولا سفن، بل طاقة كهربائية تحمل في أنابيبها رمزية مزدوجة: طاقة من الشمس التي كنا نعبدها زمن الفقر، وطاقة من إرادة سياسية جعلتنا نستثمر في مشروع تنمية مستقل حين كان العالم يسخر من أحلامنا.
وأنا أتابع خبر النور المغربي الذي عبر نحو إسبانيا في لحظة ظلام، تخيّلت الإلكترونات المغربية وهي تتقدّم بخفة الضوء وعناد التاريخ..
تتقافز من محطة إلى أخرى، في صفّ منتظم يشبه كتيبة من فرسان غير مرئيين.
في مقدمتها، إلكترون فريد، يمشي بخطى طارق بن زياد، لا يحمل سيفا ولا يخطب في الجنود، بل يتلو شيفرة من ذرّة وطاقة، كأنه يقول: “وراءكم ظلام، وأمامكم نور، فأين المفر؟”.
تشق هذه الكتيبة النورانية أنفاق البحر نحو الجنوب الإسباني، تخترق أمواج الظلام التي أغرقت الأندلس الحديثة، وتبعث الحياة في الأسلاك الميتة والمصابيح الخرساء.
هناك، في شوارع إشبيلية وقرطبة والجزيرة الخضراء، عادت الحياة تنبض من دفقة مغربية.
لا مدافع ولا جيوش، فقط شعاع خرج من محطات مغربية، وسرى بخجل واعتزاز في شرايين الغرب المعطوبة.
لقد كان هذا “الفتح الكهربائي” أبلغ ردّ حضاري على قرون من الطمس. فقد عاد المغاربة، لا كلاجئين ولا كتجار، بل كحاملي ضوء، يهمسون في أذن التاريخ: لم نُغادر، كنا نعدّ العدة، وجئنا بجيش من النور.
هذا الحدث، وقد يمرّ في نشرات الأخبار مثل عارض تقني عابر، هو في الحقيقة وثيقة إدانة ضد حضارة لم تفهم بعد أن هشاشتها تكمن في غرورها.
أوروبا، باتّحادها وبروتوكولات حلفها الأطلسي، لم تستطع أن تحمي أبناءها من عتمة لحظية، لأن القشرة التكنولوجية التي تتفاخر بها، أرقّ من خيط كهرباء.
من أين يأتي الخطر؟ من الهاكرز؟ من الحروب السيبرانية؟ من فوضى المناخ؟ من الصدفة؟
الجواب جميع ما سبق، والنتيجة واحدة: كل شيء يمكن أن يتوقف، وكل شيء قد يسقط، باستثناء الحقيقة التي تقول إن الإنسان، متى استغنى وتجبّر، عاد إلى حجمه الأصلي… إلى ظلال الشموع وصوت المولّدات ووجع العجز.
الحادثة ليست مجرد لحظة هشاشة، بل لحظة وعي.
لقد كان بوسع إسبانيا، والأندلس تحديدا، أن تعيش لساعات في ظلام تام، لولا الربط الكهربائي مع المغرب.
إنها لحظة مصالحة مع الجغرافيا، التي كثيرا ما رفضتها أوروبا حين قررت أن المغرب جزء من إفريقيا لا من جوارها القريب.
الجغرافيا تردّ الصاع صاعين؛ فحين شحّت الكهرباء شمالا، تدفّقت من الجنوب.
الدرس واضح لكل من يريد أن يتعلمه: لا أحد في مأمن، لا لأن العالم خطر، بل لأننا نسينا كيف نكون بشرا طبيعيين.
كلنا نحمل في جيوبنا هاتفا ذكيا، لكننا لا نحمل ولا واحدة من المهارات التي تحفظ الحياة في غياب الشبكة.
نتباهى بالبنية التحتية، وننسى أن أقواها يمكن أن تنهار بلحظة خلل.
نراهن على العواصم والقمم والمنظمات، ثم نجد أنفسنا نتصل بجيراننا بحثا عن.. شمعة.
الأندلس استعادت نورها، والمغرب مدّ سلكا جديدا في سردية لم يكن أحد يتوقعها: نور من الجنوب إلى الشمال.
هنا المعنى الحقيقي للنهضة: أن تكون فقيرا لكن قادرا على العطاء، مهمّشا لكن حاضرا في لحظة الحقيقة، غائبا عن الأجندات لكن أول من يُطلب عند الطوارئ.
لا أعرف كيف ستكتب كتب التاريخ هذا المشهد، لكنني أعرف كيف سيقرأه المغاربة حين يتحرّرون من عقدة الدونية: نحن لم نعد فقط أبناء ماض مجيد، بل شركاء في إنارة المستقبل… بما في ذلك مستقبل الأندلس.