العدالة والتنمية.. قصة عودة حزب اعتلى المشهد قبل أن يسقط صريعا خريف 2021

ينعقد خلال يومي السبت والأحد 26-27 أبريل 2025، المؤتمر الوطني التاسع لحزب العدالة والتنمية بمدينة بوزنيقة، لإعادة تجديد هياكله وانتخاب قيادة جديدة، مع المصادقة على ورقة مذهبية وأطروحة سياسية تؤطران توجهات الحزب ورهاناته في المرحلة المقبلة.
ويأتي مؤتمر “المصباح” في مرحلة دقيقة من تاريخ الحزب، خاصة بعد الأحداث الصعبة التي عاشها منذ فترة البلوكاج السياسي الشهير الذي أعقب انتخابات 07 أكتوبر 2016، التي حقق فيها نتائج غير مسبوقة في التاريخ السياسي للمغرب، وما تلاها من أزمات انتهت بسقوط مدوي للحزب في انتخابات 2021، بعدما كان يعتلي قمة المشهد السياسي بـ 140 مقعدا برلمانيا (نواب ومستشارون) وترؤسه لقرابة 200 جماعة بعد الانتخابات الجماعية لسنة 2015.
ومع اقتراب موعد هذه المحطة التنظيمية المفصلية في مسار الحزب، يتزايد أمل المؤتمرين وعموم الأعضاء والمتعاطفين، في طي صفحة المرحلة السابقة بنجاحاتها وإخفاقاتها، وفتح صفحة جديدة تعيد للمصباح وهجه الذي اكتسبه قبل 14 سنة، في سياق ثورات الربيع العربي التي صعدت به إلى تصدر المشهد السياسي وقيادة أول تجربة حكومية بعد دستور 2011.
من المعارضة إلى المسؤولية
جاء صعود الحزب إلى موقع تدبير الشأن العام وقيادة الحكومة، بعد قرابة 15 سنة قضاها في المعارضة، بدأها بالمشاركة في التصويت على دستور 1996، وبعدها المشاركة الأولى في الانتخابات التشريعية لسنة 1997 التي حصل فيها على 9 مقاعد بمجلس النواب، ثم انتخابات 2002 التي حصل فيها على 42 مقعدا، وبعدها انتخابات 2007 التي حاز فيها على 47 مقعدا، لتأتي موجة الربيع العربي التي حملته إلى موقع المسؤولية، بعدما حصل على المرتبة الأولى في انتخابات 25 نونبر 2011، بـ 105مقاعد.
وبعد انتقاله إلى موقع المسؤولية في تدبير الشأن العام، لم تكن طريق الحزب وأمينه العام رئيس الحكومة حينها عبد الإله ابن كيران مفروشة بالورود، إذ بعد تنصيب الحكومة مباشرة، مطلع يناير 2012، سيواجه ابن كيران وحزبه عددا من الملفات الصعبة والمطالب الملحة التي رفعها الشارع المغربي في احتجاجات 20 فبراير، إضافة إلى معارضة قوية بالبرلمان، وسياق إقليمي صعب، فضلا عن تصدع الأغلبية الحكومية الذي انتهى بانسحاب حزب الاستقلال سنة 2013.
هذه الأحداث كادت أن تقتل تجربة الإسلاميين في مهدها، قبل أن ينجح ابن كيران في إقناع حزب التجمع الوطني للأحرار بالمشاركة في الحكومة، بعد تعديلها، إلى جانب التقدم والاشتراكية والحركة الشعبية، وإنهاء الولاية الحكومية الأولى بأحسن صيغة ممكنة، حينما استطاع الحزب نيل ثقة المغاربة للمرة الثانية تواليا وبعدد مقاعد غير مسبوق وصل لـ 125 مقعدا.
بلوكاج حكومي
غير أن النجاح الذي حالف ابن كيران وحزبه في إنقاذ حكومته من السقوط في ولايتها الأولى سنة 2013، لم يحالفه هذه المرة، حينما عجز عن ترجمة نجاحه الانتخابي إلى انتصار سياسي عقب البلوكاج الحكومي الذي قاده رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار ورئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش بعد انتخابات 2016، والذي حال دون تشكيل أغلبية حكومية يرأسها عبد الإله ابن كيران، مما دفع بالملك محمد السادس إلى إعفاء الأخير من مهمة تشكيل الحكومة وكلف مكانه الرجل الثاني في الحزب حينها سعد الدين العثماني.
ولم تمر إلا أياما معدودات على تعيين العثماني رئيسا للحكومة من طرف الملك محمد السادس في 17 مارس 2017، حتى نجح في تكوين أغلبية حكومية تم تعيينها من طرف الملك يوم 5 أبريل 2017 مكونة من ستة أحزاب، وهي العدالة والتنمية، والتجمع الوطني للأحرار، والتقدم والاشتراكية، والحركة الشعبية، والاتحاد الدستوري، وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي كان أحد الأسباب الرئيسية في عملية البلوكاج السياسي الذي استمر زهاء 6 أشهر، إلى جانب أمور أخرى.
وساهمت الطريقة التي تم بها إخراج التشكيلة الحكومية، بقيادة سعد الدين العثماني، في رفع منسوب الاحتقان والصراع بين أعضاء الحزب كونها “لم تعكس” الوزن الحقيقي لعدد الأصوات التي حصل عليه المصباح، والتي منحته 125 مقعدا نيابيا، إذ اكتفى الحزب بوزارات “أقل أهمية” بالمقارنة مثلا مع حزب التجمع الوطني للأحرار صاحب الـ 37 مقعدا نيابيا حينها، والذي قاد جل الوزارات الحيوية.
قطع الطريق أمام ابن كيران
حادث البلوكاج وإعفاء ابن كيران من تشكيل وقيادة الحكومة لولاية ثانية، فضلا عن الطريقة التي تم من خلالها تشكيل حكومة سعد الدين العثماني، كلها أمور لم تكن نتائجها هيّنة على الحزب الذي عاش حينها شرخا قويا بين ما سمي حينها “بتيار ابن كيران وتيار سعد الدين العثماني”، خاصة بعد رفض عدد من قادة الحزب التجديد لعبد الإله ابن كيران أمينا عاما، من خلال عدم السماح بتعديل المادة 16 من القانون الأساسي الذي لا يسمح بأكثر من ولايتين متتاليتين للأمين العام على رأس الحزب.
هذا المشهد انتهى بانتخاب سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة حينها، أمينا عاما خلفا لعبد الإله ابن كيران خلال المؤتمر الوطني الثامن الذي انعقد شهر دجنبر 2017، بعد منافسة قوية حينها مع رئيس المجلس الوطني للحزب إدريس الأزمي الإدريسي الذي كان هو الآخر مرشح قويا لقيادة الحزب من منصب الأمين العام.
وعلى خلاف الولاية الحكومية الأولى، التي قاد فيها العدالة والتنمية برئاسة عبد الإله ابن كيران الحكومة بين 2012 و2016، والتي ازداد فيها الحزب قوة وصلابة، عرف هذا الأخير انخفاضا كبيرا في منسوب الحماس لدى عموم أعضائه، وتراجعت قوته بفعل تداخل مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية التي جعلته غير قادر على تنزيل العديد من الوعود التي قطعها خلال حملته الانتخابية سنة 2016.
عوامل ذاتية وأخرى موضوعية
على المستوى الذاتي، لم تتمكن قيادة الحزب من تقريب وجهات نظر العديد من قيادته وأعضائه، بالرغم من إطلاق الحزب لحظتها حوارا وطنيا كان هدفه تشخيص آلام ومشاكل اللحظة التي عاشها، بعد البلوكاج، واستشراف مستقبله داخل الخريطة السياسية في سياق عرف العديد من المتغيرات بعد مظاهرات الربيع العربي.
استمرّ الحوار الوطني لأشهر عبر عدة جولات تضمنت العشرات من الجلسات لكنه لم يفض في آخر المطاف إلى الهدف الذي وضع من أجله، خاصة مع مقاطعة ابن كيران له، واكتفائه بتقريع القيادة الحزبية حينها عبر فيديوهات كان يبثها على صفحته الرسمية بموقع “فايسبوك” من داخل منزله.
خلقت خرجات ابن كيران مشاكل جمة للأمين العام ورئيس الحكومة سعد الدين العثماني وباقي وزراء وقيادة الحزب، كونها كانت “تشوش على عمل الحزب”، وتؤثر بشكل سلبي على “تماسك” الأغلبية الحكومية وتحول دون تمكن الحزب من لعب دوره كاملا على مستوى قيادة الحكومة.
وجد ابن كيران في موضوع “فرنسة التعليم”، وتقنين القنب الهندي، و”الهجوم” على عدد من قيادة الأحزاب المشاركة في الأغلبية الحكومية، وغيرها، فرصة مهمة لتقريع قيادة الحزب إلى درجة أنه طالب سعد الدين العثماني بتقديم استقالته في أكثر من مناسبة، فضلا عن زيادة منسوب الاحتقان والتذمر الذي كان يهيمن على شعور أبناء العدالة والتنمية حينها.
هذا التذمر والاحتقان سيرتفع حجمهما بعد خطوة غير مسبوقة أقدم عليها سعد الدين العثماني بصفته رئيسا للحكومة، ضد مبادئ وأدبيات الحزب، والتي تمثلت في التوقيع على الاتفاق الثلاثي بين المغرب وأمريكا وإسرائيل، وهي الاتفاقية التي أعاد من خلالها المغرب فتح مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط وتطبيع العلاقات الديبلوماسية بين الرباط وتل أبيب.
التوقيع على اتفاق التطبيع سنة 2020، من طرف الحزب الإسلامي في شخص أمينه العام سعد الدين العثماني شكل ضربة قاصمة للحزب أو بالأحرى لقيادته، التي انفض من حولها قسم غير يسير من أعضائه ومتعاطفيه، وأبناء ذراعه الدعوية، حركة التوحيد والإصلاح، الذين سيعاقبونه بعد سنة بعدم التصويت له، وهذا جزء من الأسباب الموضوعية التي ساهمت في عملية السقوط الحر لحزب اعتلى صدارة المشهد السياسي لعقد من الزمن، قبل أن ينتهي به المطاف في المركز الثامن انتخابيا بـ 13 مقعدا برلمانيا فقط عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات لسنة 2021.
مؤتمر استثنائي
بعد هذه الحصيلة “الكارثية”، تحملت قيادة الحزب مسؤولية ما جرى وأعلنت عن استقالة جماعية، مكتفية بوصف نتائج الانتخابات بـ “غير المفهومة”، مستنكرة استعمال المال وعدم تسليم المحاضر الانتخابية، والضغط على المرشحين، واستمالة أصوات الناخبين.
وبعد أيام أعلن الحزب عقد مؤتمر استثنائي لتدبير المرحلة الحرجة التي كان عليها، في أفق تنظيم مؤتمر وطني عادي. وعلى إثر ذلك انقسمت الأصوات داخل الحزب بين من يدعو إلى مؤتمر استثنائي والقطع مع فترة صعبة بدأت سنة 2016، ويجب أن تنتهي سنة 2021، مع الإعداد والتخطيط لعقد المؤتمر الوطني العادي، وبين من كان يدعو إلى ترك الأمين العام حينها أو نائبه يدبر أمور الحزب إلى حين عقد مؤتمر وطني عادي بعد سنة تقريبا، “مخافة أن يُحرم الحزب من ميزانية الدعم” التي تصرفها وزارة الداخلية للأحزاب لعقد مؤتمراتها العادية.
الطرح الثاني قوبل برفض أغلب أعضاء الحزب بقيادة الأمين العام الحالي عبد الإله ابن كيران، مطالبين القيادة السابقة بترك تدبير شؤون الحزب لقيادة جديدة “ما دامت أنها تحملت مسؤولية ما وقع وقدمت على خلفية ذلك استقالتها”.
وأعلن حينها ابن كيران في بث مباشر على صفحته الرسمية بموقع “فايسبوك” رفضه قرار الأمانة العامة المستقيلة والمجلس الوطني بعقد المؤتمر العادي للحزب بعد سنة من المؤتمر الاستثنائي، مؤكدا أن الأمانة العامة المستقيلة “لا حق لها في تقرير مستقبل الحزب”، على اعتبار أن الأمانة العامة حينها طلبت عقد المؤتمر الوطني العادي بعد سنة واحدة من عقد المؤتمر الاستثنائي.
وعلى إثر ذلك عقد الحزب مؤتمرا وطنيا استثنائيا، أواخر أكتوبر 2021، أفضى إلى إعادة انتخاب عبد الإله ابن كيران أمينا عاما جديدا بعد حصوله على 1012 صوتا مقابل 221 صوتا لعبد العزيز العماري و15 صوتا لعبد الله بووانو، بينما بلغ عدد الأصوات الملغاة 4 أصوات.
عودة الروح
نجح ابن كيران بعد ذلك، وعلى مدى أربع سنوات، في إعادة الروح إلى الحزب الذي تسلّمه جثة هامدة، خريف سنة 2021، إذ استطاع استثمار المعارك السياسية والمجتمعية التي خاضها ضد خصومه السياسيين لفائدة الحزب، محققا نقاطا مهمة أسهمت في عودة الحزب بقوة. ومن أمثلة ذلك موقف الحزب وبلاغاته من علاقات التطبيع مع إسرائيل، ورش مدونة الأسرة، ومعارضته القوية للحكومة ورئيسها عزيز أخنوش، وغيرها.
كل هذه المحطات والمعارك التي خاصها حزب العدالة والتنمية بقيادة أمينه العام الحالي عبد الإله ابن كيران جعلت منه إلى حدود الآن رقما صعبا في الساحة السياسية بالرغم من صغر حجمه الانتخابي (13 مقعدا)، غير أن تأثيره السياسي يبقى كبيرا، وأسهمه بات ترتفع يوما بعد آخر في بورصة التدافع السياسي، ويظهر ذلك من خلال الملفات التي استطاع حسمها لصالحه أو على الأقل أن يجعلها قضية رأي عام وطني.
وفي آخر مشهد هذا المسلسل الطويل سيكون أبناء العدالة والتنميةخلال يومي المؤتمر، على موعد مع محطة تنظيمية مفصلية في مسيرة الحزب، تتعلق بالمؤتمر الوطني التاسع لانتخاب أمين عام جديد وقيادة جديدة قادرة على تدبير شؤون الحزب في المرحلة المقبلة وكسب رهان الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2026، فضلا عن التوجهات المستقبلية التي ستؤطرها ورقة مذهبية وأطروحة سياسية، ستكونان موضوع المصادقة خلال جلسات المؤتمر.