العدالة فوق الحصانة
تحوّلت قضية تصريحات رئيس فريق الأصالة والمعاصرة في مجلس النواب، أحمد التويزي، إلي نقاش دستوري تتوحّد فيه فرق الأغلبية والمعارضة متمترسة خلف لافتة “الحصانة” في مواجهة قرار قضائي بفتح تحقيق حول تصريحاته الشهيرة الخاصة ب”طحن الكاغيط”، أي القنبلة المدوّية سواء بمعناها الحرفي أو “المجازي”.
الحقّ في الرأي والتعبير مصون للجميع، وبرلمانيّو الأمة ليسوا استثناء من هذه القاعدة. هذا ليس منّة من أحد، بل نصٌّ صريح في دستور 2011، الذي يقرّر في فصله الأول أنّ نظام الحكم يقوم على فصل السلط وتوازنها وتعاونها، وفي فصله 64 الذي يقول إنّ عضو البرلمان لا يُتابَع بسبب رأي أبداه أو تصويت أدلى به أثناء مزاولته لمهامه، باستثناء الحالات المحدّدة التي تمسّ الثوابت والاحترام الواجب للملك.
من هنا، تبدو حالة السيد أحمد التويزي اختبارا دالّا للتمييز بين الرأي وبين الإخبار بوقائع محدّدة، هي في واقعة التويزي إما جرائم خطيرة تستوجب متابعة مرتكبيها ممن “يطحنون الكاغيط”، أو ادعاءات زائفة من جانب البرلماني، تستوجب مساءلته قضائيا لعدم إمكانية استعمال الصفة السياسية لخرق القانون.
الرأي قيمةٌ معنوية، وتقديرٌ ذاتيّ، يدخل في دائرة “التقييم” ولو كان قاسيا، وهو ما تنحاز إليه اجتهادات قضائية مرجعية دوليا. مثل قضية ” لينغنز”، الذي حكمت فيه المحكمة الأوربية ضد النمسا، داعية إلى التمييز بين التقييم السياسي والادعاء بوقائع قابلة للإثبات.
يتعلّق الأمر بحكم مفصلي للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، يهمّ الصحفي النمساوي بيتر لينغنز، الذي أُدين بالتشهير لأنه وصف المستشار برونو كرايسكي بتعابير نقدية حادّة (مثل “انتهازية وضيعة”) في سياق جدل عام حول مواقف سياسية؛ والمحاكم النمساوية طالبته بإثبات “صحة” تلك التقييمات، وهو ما اعتبرته المحاكمة الأوربية انتهاكا لحرية التعبير، بما أن الأمر يتعلّق بعبارات نقذ حاذ لا أكثر.
أمّا الخبر فهو نسبةُ واقعة محدّدة إلى أشخاص محدّدين، على نحو يمكن التحقّق منه: وقع أم لم يقع؟ حدث أم لم يحدث؟
وعندما يقول نائب برلماني، تحت قبّة البرلمان أو خارجها، إن شركات «تطحن الكرطون وتبيعه بدل الدقيق» ثم يلحقها بتوضيح مفاده أنه يقصد «تزوير الفواتير واستفادة غير مستحقّة من دعم عمومي»، فنحن لسنا أمام “رأي” أو “تصويت”، بل أمام إعلان عن إلمام بجرائم مفترضة تمسّ الأمن الغذائي والمال العام.
هنا لا تعمل حصانة الرأي عملَ “ستار مطلق”، لأن موضوع القول خرج من التقييم السياسي إلى الإخبار بوقائع تستدعي التحرّك القضائي للتحقّق منها وأخذ حقوق المجتمع المرتبطة بها.
لهذا فإنّ فتح النيابة العامة لتحقيق ليس انتهاكا للحصانة، بل تجسيدٌ لروح الدستور ذاتِه: فصلُ السلط مع تعاونها وتوازنها.
في سجلّات الاجتهادات القضائية الدولية الموثوقة، هناك ميول واضح، ومطلوب، إلى حماية حرية الرأي والتعبير كلّما تعلق الأمر بالمجال السياسي، لكن هذا التمييز بين الرأي والوقائع يظل قائما.
لنأخذ هدا النموذج: مونيكا مكوفَي، وزيرة عدل رومانية سابقة وعضو بالبرلمان الأوروبي، أدلت بتصريحات صحافية انتقدت فيها أدوار سياسيَّين، وأشارت إلى حصولهم على عقود بمبالغ كبيرة مع شركات عمومية من دوائرهما الانتخابية، ووصفت ذلك بأنه نموذج ل”الفساد”.
رُفعت دعوى مدنية ضد البرلمانية الأوربية، بالتعويض عن القذف وانتهاك الخصوصية، فقضت محكمة الاستئناف في بخارست بإدانتها وإلزامها بدفع تعويض ونشر الحكم في صحف واسعة الانتشار؛ وأيّدت محكمة النقض الحكم، لتلجأ مكوفَي إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
الأخيرة قضت بتجاوز الحكم المحلي في حق البرلمانية حين أدان حتى آراءها السياسية، لكنه نصّ على ضرورة التمييز بدقة بين آراء ومواقف السياسي، والمشمولة بالحماية شبه المطلقة، وبين المعطيات التي تستعمل في خطاب السياسيين، والتي ينبغي أن تكون دقيقة (information conveyed about general public interests should be accurate and reliable, and delivered in good faith).
ورغم أن المحكمة قبلت طعن البرلمانية الرومانية ضد قضاء دولتها، إلا أن الحكم أوضح أن الخلل يتمثل في عدم تمييز القضاء الروماني بين حق السياسية في التعبير، ولو بقسوة، عن آرائها، وبين المعطيات التي تضمنها تصريحها.
بل إن أحد قضاة المحكمة الأوربية حرص علي تذييل الحكم بتحفّظ مفاده أنه لا يتفق مع الحكم لأن القضاء الروماني، في رأيه، لم يخرق الاتفاقية الأوربية لحقوق الانسان، بما أن البرلمانية نسبت تهمة الفساد لأشخاص، وهو “ادّعاء خطير يقع على تخوم الاتهام الجنائي ويستلزم أساسا واقعيا قويا، وهو غير متوافر”.
وبالتالي فإن فكرة الحصانة المطلقة للبرلمانيين أثناء حديثهم داخل البرلمان ليست صحيحة.
نعم، النظام الداخلي لمجلس النواب يُوسّع من تعريف “إبداء الرأي” في المادة 30 ليشمل المواقف الشفوية والكتابية أثناء ممارسة المهام، لكنه يظلّ مقيّدا بطبيعة القول وبالمجال الوظيفي للخطاب البرلماني.
فحين يتعلّق الأمر بادعاء وقائع جرمية محدّدة تمسّ الأمن الغذائي والمال العام، يصبح الأصل هو التحقّق لا تعطيل العدالة باسم الحصانة. وهنا تتكامل السلط: البرلمان يراقب السياسات، والحكومة تُنفّذ وتوضّح، والنيابة العامة تبحث. هذا هو معنى التوازن: لا سلطة فوق القانون ولا سلطة خارج المساءلة.
ثم إن مسألة السياق تعتبر حاسمة وحيوية في مثل هذه الحالات، وحتى المحكمة الأوربية تختلف أحكامها حول وقائع متطابقة بحسب وضعية الدولة، فإذا كانت دولة ديمقراطية وذات أقدام راسخة في هذا المجال، حاولت المحكمة الأوربية الانتصار للحقوق الفردية وحماية الحياة الخاصة في مواجهة الخطابات والتعبيرات… وحين يتعلّق الأمر بدولة في طور التحوّل الديمقراطي، نجد المحكمة الأوربية تتشدّد في حماية التعبيرات السياسية، سواء للصحافيين أو المنتخبين، المعارضين بالخصوص.
وفي حالتنا المغربية، نحن أمام مؤسسة برلمانية قدّمت لنا أكثر من دليل وبرهان على فشلها في تفعيل الآليات الدستورية التي تسمح بترتيب الحقائق وكشف المسؤوليات، من قبيل لجان تقصي الحقائق والمهام الاستطلاعية. وفضيحة “الفراقشية” ليست بعيدة عنا. وبالتالي هل يعقل أن نقبل بتقاعس البرلمان في أداء مهامه وتقديم الخدمة المنتظرة منه للمجتمع، ونقيّد حتى العدالة عندما تتحرّك لملء هذا الفراغ؟
يبقى سؤال الوسيلة القانونية في حال عجز النائب عن الإثبات. هنا أيضا ينبغي أن نكون مبدئيين: مدونة الصحافة والنشر كرّست خيار المغرب الواضح في إزالة العقوبات السالبة للحرية من قضايا النشر والتعبير، واعتماد التعويضات المدنية والغرامات، ومعيار حسن النية، ومعايير التناسب.
فإذا أثبت التحقيق أنّ الادّعاءات التي وردت على لسان البرلماني، أخبارٌ زائفة أو قذفٌ بلا سند، فالوجهة الأسلم — والأقرب لخيارات المغرب الحقوقية — هي قانون الصحافة والنشر لا القانون الجنائي، ما لم نكن أمام أفعال مادية أخرى تخرج بالمقام إلى وصف جنحي أو جنائي مستقل.
بهذا نحمي حرية التعبير ولا نحولها إلى سلاح لجَعْل الكلمة بلا مسؤولية.
ما قاله السيد التويزي ليس “رأيا محميا” ولا “تصويتا دستوريا”، بل إخبارٌ بجرائم مزعومة. إما أن يقيم الدليل فينفع البلاد بكشف الفساد وتحصين المال العام، وإما أن يعجز عن الإثبات فيتحمّل تبعات ادعاءاته وفق القانون الأصلح لحرية التعبير، أي قانون الصحافة والنشر الخالي من العقوبات السجنية.
وبين هذا وذاك، يظلّ الحقّ في التعبير مصونا، والحصانة البرلمانية محترمة في مجالها الطبيعي، والعدالة قائمة على واجبها في التحقّق متى سمعَت ادعاء بوقائع جرمية تمسّ قوت المغاربة وصحّتهم ومالهم العام.
هذا هو التوازن الذي قصده الدستور، لا حصانة مطلقة، ولا عدالة صامتة.
وأخيرا، لِكي لا يضيع جوهر القضية بين “سوء تعبير” و“توضيح متأخر”، فإنّ المعيار البسيط الذي يُنهي هذا الجدل ويوفّر علينا الضجيج هو الآتي: الرأي لا يُكذَّب ولا يُصدَّق، بل يُناقش ويُتّفق معه أو يُعارَض.
أمّا الخبر فيُسأل عن دليله. فإن كان الدليل حاضرا، فالمكان الطبيعي له هو القضاء وهيئات الرقابة والافتحاص؛ وإن غاب، فمصير الادّعاء إلى قواعد المسؤولية في النشر والتبليغ.
والعبارة الشهيرة المنسوبة للراحل محمد الخامس التي تواجه طلبة الصحافة في معهد الرباط كلّما همّوا بدخوله تقول: الخبر مقدّس والتعليق حرّ.
هكذا نحمي حرية القول من جهة، ونحفظ للعدالة حقّها من جهة أخرى؛ وهكذا نفهم الحصانة كوسيلة لخدمة الحقيقة، لا كوسيلة للهروب منها.