العالم الإسلامي والوعي الكوني: دعوة للتمرد على وعي الهامش

كنتُ قد تناولت في مقال سابق حاجة العالم الإسلامي إلى بلورة ميثاق استراتيجي جامع، يُشكّل خطوة أولى نحو تكتّل فعّال يعيد ترتيب الأولويات، ويؤسس لعلاقات تعاون أكثر استقلالًا ونجاعة في الدفاع عن مصالحه المشتركة.
وفي هذا المقال، أُسلّط الضوء على نقطة أراها حاسمة في سبيل تحقيق ذلك الطموح، وهي مسألة وعينا نحن المسلمين بهذا الكيان الذي نسمّيه “العالم”. فالحديث عن الفعل الدولي لا يكتمل دون مراجعة الطريقة التي نُدرك بها هذا العالم، وتمثّلاتنا له، والزاوية التي ننظر من خلالها إلى ما يطرحه من تحديات وفرص، وما إذا كنا نراه ساحةً للفعل والمشاركة، أم مجرد تهديد ينبغي الانكماش أمامه.
لا أقصد بالوعي بالعالم مجرد معرفة أسماء الدول ومواقعها على الخريطة، أو أسماء رؤسائها وعواصمها، بل إدراكه كنسق تحكمه قواعد دقيقة وتوازنات حساسة، تُحدّد من خلالها موازين القوة، وتُبنى فيها التحالفات، وتُصاغ بها معاني الهيمنة والمقاومة. الوعي بالعالم يعني أن نفهم من يُنتج القرار فيه، ومن يملك سلطة التسمية والوصف، ومن يُحدّد ما يُعدّ عقلانيًا أو مشروعًا أو مقبولًا في السياسة الدولية.
وقبل ذلك وبعده، هو أن نعي أنّ هذا العالم، رغم ما يبدو عليه من استحالة من موقعنا الهامشي، يظل مفتوحًا للفعل أمام من يملك الجرأة على التفكير والانخراط فيه بوعي ومسؤولية.
فما الذي يُضيّق أفق رؤية بعضنا لهذا العالم؟ ولماذا لا يزال تفكيرنا حبيسًا لقوالب دول الهامش، لا يرى في هذا العالم نظامًا معقّدًا ينبغي فهمه، والتعامل معه، واستثمار إمكاناته وفرصه، بل نُرجئ التعامل معه إلى زمنٍ نظنّه بعيدًا، فيما هو قائمٌ وحاضر؟
يكمن جانب من الجواب في أن المسألة لا تتعلق فقط بضيق أفق سياسي، بل تُحيل إلى وضع حضاري أعمق وأكثر تعقيدًا. فحين يعيش مجتمع ما على هامش العالم، لا يعود وعيه يتجاوز هذا الهامش، بل يغدو هذا الهامش في نظره هو العالم كله.
فالمكان ليس مجرد موضع جغرافي، بل هو شرط معرفي. ومن يقيم في الهامش، لا يملك تلقائيا أدوات العبور النفسي والمعرفي نحو المركز، وبالتالي لا يستطيع أن يبني وعيًا حقيقيًا بالعالم، بل يكتفي بوعي مشوّه عنه.
ما نقوله هنا عن علاقة المكان بالوعي نبّه إليه عدد كبير من المفكرين والفلاسفة، وقد كان فرانز فانون من أبرز من كشفوا هذا الترابط في تحليله العميق للبنية الاستعمارية، حيث أشار إلى أن المدينة الاستعمارية ليست مجرد عمران، بل بنية رمزية ومعرفية. فهي -كما كتب في معذبو الأرض- منقسمة إلى عالمين: عالم الأسياد الذي تُسمّى شوارعه وتُصاغ فيه القرارات، وعالم الرعايا الذي يُترك بلا أسماء ولا رموز ولا تاريخ. ومن يعيش في الثاني لا يمكنه أن يفهم الأول كما هو، بل كما يسمح له موقعه أن يتخيله، فيفسّره من خلال رموزه المحدودة والمشوّهة.
المكان تجربة وجودية تؤسس لزاوية الرؤية. تموضعنا على هامش العالم لا يحدّد فقط موقعنا على الخريطة العالمية، بل يُعيد تشكيل وعينا بالعالم نفسه، وطريقتنا في تفسيره، وحدود فعلنا فيه. حين نقيم في الهامش، فإننا نرى العالم من زاوية منخفضة، مشوّشة، تفتقر إلى أدوات الفهم الشامل.
ولهذا يظل وعينا بالواقع الدولي مشوبًا بنوع من الالتباس:
• التباس نفسي يجعلنا ننكفئ إلى ذواتنا المهمَّشة ونرى في الانغلاق نوعًا من الحماية،
• والتباس معرفي يُعيق قدرتنا على إدراك تعقيدات السياسة العالمية، لأننا نحاول فهمها من خلال نماذج تصورية، لا تنتمي إلى منطقها الكوني، بل تنبع من تجربتنا المحدودة.
إن أخطر ما يُورثه الموضع الهامشي هو تلك النفسية المُقزَّمة التي لا تجرؤ على أن ترى العالم من علٍ، وتتصور أن فهمه والفعل فيه يتطلب إذنًا بالدخول أو موقعًا معتمدًا في دوائر القرار.
فمن يعيش على أطراف العالم غالبًا لا يبصره كما يراه أولئك الذين صاغوا خرائطه ورسموا ملامحه. وخيالُه، المشدود إلى ضيق الواقع الهامشي، نادرًا ما يتّسع لفهم هذا العالم بكل ما فيه من تشابك وتعقيد. ومن اعتاد النظر إلى السياسة من خلف منظار محلّي محدود، يظلّ أسيرًا لصورة مجتزأة، لا تتيح له رؤية المشهد العالمي كما يُرسم في غرف التفكير الاستراتيجي.
وغالبًا ما يُنتج هذا الواقع وعيًا سياسيًا مختزَلًا، تُهندس فيه الفاعلية من موقع المركز، بينما يُربّى من في الهوامش على التلقّي والانكماش داخل حدود الممكن القُطري، لا على الشعور بالفاعلية العالمية.
ومع ذلك، لا ينبغي لهذا الواقع أن يصبح قدرًا. فمن حق المهمشين – بل من واجبهم – أن ينتزعوا أدوات الفهم، ويتمردوا على هندسة الوعي التي رُسمت لهم. حتى من نشأ في موقع الإقصاء، يستطيع أن يُعيد تموضع وعيه، ويرى العالم من موقع الفاعل، لا المتلقّي.
صحيح أن الوضع المثالي هو أن يولد الإنسان في فضاء يورثه الثقة بأنه فاعل في هذا العالم، لا مُنفعل به، وأن العالم قابل للفهم، لا متاهة غامضة تُربك العقل أمام تعقيدها.
لكن الواقع ليس كذلك دومًا. فماذا لو كنتُ ابن الهامش؟ في مدينة هامشية، داخل دولة هامشية، على أطراف قارة تُعامل – في خرائط القوى الكبرى – بوصفها حافة العالم؟
فما العمل إذن؟
كيف نتحرّر من هذا العجز التصوري؟ كيف نبني وعيًا يُبصر العالم كما هو، لا كما تسمح به شقوق موقعنا؟ كيف نُعيد الإمساك بأدوات الفهم، لنفكّك، ونحلل، ونعيد التموضع لا في الجغرافيا، بل في الفكر، والمعنى، والفعل؟
لا بد أن نتمرّد على تموضعنا المادي الهامشي، وألّا نسمح له بأن يستمر في جرّنا إلى تموضع رمزي ومعرفي أكثر تدنيا. فالفقر الجغرافي لا ينبغي أن يُنتج فقرًا في الوعي، ولا أن يُحوّلنا إلى كائنات تعيش على هامش التاريخ، ثم توهم نفسها – دفاعًا عن كبريائها الجريح – بأنها كانت في قلبه دائمًا.
علينا أن نُكسب وعينا نفسية الفاعل الدولي المبادر إلى بناء التكتلات، حتى في ظل شروط مادية متدنية. وعيٌ يتحرّر من عقدة التهميش ومن وهم المركزية الذاتية، فيكُفّ عن حصر العالم في إسقاطات وهمية، أو تجاهله بدعوى أنه “لا يعنينا”. فكثيرًا ما تدفعنا عزةٌ جريحة إلى إنكار موقعنا الثانوي في النظام الدولي، لا عن قصورٍ معرفي فحسب، بل لأن مواجهة العالم تؤلم كبرياءنا. فنلوذ بردّة فعل مغلقة، نختزل فيها العالم في ذواتنا، ونُغلق الأفق أمام إمكانات الفهم والمشاركة.
وهنا تظهر الوظيفة التحريرية للإيمان، لا بوصفه عزاءً، بل باعتباره قوة داخلية تعيد ترتيب علاقتنا بالعالم من موقع الرسالة لا من موقع العجز. الإيمان، حين يُفهم كحافز على الفعل والانفتاح على البشرية، لا كمبرر للركون، يمنح الوعي أفقًا يتجاوز الضيق الجغرافي، ويرتقي بالإنسان من موقع التلقي إلى مكانة الفعل الرسالي والمسؤولية الكونية.
نستحضر في هذا السياق ما قاله الصحابي الجليل ربعي بن عامر مخاطبًا كسرى، في لحظة فارقة من تاريخ الأمة، حين اختزل وظيفتها الكونية في كلمات جامعة:
“ابتعثنا الله لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”.
كلمات قيلت من أطراف العالم، لكنها صدرت عن إرادة وضعت نفسها في قلبه، فغدت بعد حين مركزه.
لسنا محكومين بالبقاء في الهامش إلى الأبد، ولا قدر علينا أن نظل غرباء عن فهم العالم أو عاجزين عن الفعل فيه. لكن الوعي بالعالم لا يُمنَح لأصحاب الإرادات المقيدة، بل لأولئك الذين تسمو إرادتهم، وتتسع رؤيتهم، ويتهيؤون فكريًا ونفسيًا لتجاوز ضيق المكان نحو أفق الفعل الكوني.
وعليه، فمن وجدوا أنفسهم في الهامش، فعليهم ألا يستسلموا لحدوده وأن يرتقوا بوعيهم إلى مستوى المركز، وأن يمتلكوا الجرأة للخروج من رموزهم المغلقة، ويبدؤوا بمساءلة إراداتهم وأدواتهم قبل مساءلة العالم.
فكيف نفهم هذا العالم إن لم نرَ أنفسنا جزءًا حيا منه، بل في صميمه؟ وكيف نتحرّر من التبعية الفكرية والسياسية إن لم ندرك أن تموضعنا الهامشي ليس مجرد موقع، بل جزء من مشكلة الإدراك نفسها؟ إنها ليست معركة معلومات تُخاض بالعقل فقط، بل معركة وجود وإرادة أيضًا. وحين نُدرك ذلك، نكون قد خطونا الخطوة الأولى نحو استعادة موقعنا في العالم، لا بوصفنا متلقّين، بل بوصفنا فاعلين.