story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الضيف رحل لتبقى غزة!

ص ص

في لحظة شديدة الرمزية، اجتمع نقيضان لا يمكن الجمع بينهما بسهولة: تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي تحلم باقتلاع الفلسطينيين من غزة وتهجيرهم نحو مصر والأردن، وإعلان حركة حماس استشهاد قائدها العسكري محمد الضيف، رجل الظل الذي حمل القضية فوق كتفيه عقودًا من الزمن.

مشهد يعكس الصراع الممتد منذ أكثر من قرن، بين مشروع استعماري قائم على الاقتلاع، وشعب يؤمن بأن الأرض ليست مجرد مكان، بل هوية ووجود.

لم يكن الموقف الذي أعلنه ترامب نابعا من فراغ، بل هو امتداد طبيعي لرؤية تبلورت منذ وصوله إلى البيت الأبيض مستهل عام 2017. فهو الذي قدّم “صفقة القرن” كإطار لتصفية القضية الفلسطينية، ثم عاد اليوم ليطرح مشروع تهجير سكان غزة كحلّ نهائي للحرب الدائرة.

لا يحتاج الأمر إلى كثير من التأمل لفهم أن ما يقترحه ترامب ليس إلا إعادة إنتاج لنكبة جديدة، تكتمل بها حلقات المشروع الصهيوني في تصفية الوجود الفلسطيني على الأرض.

الطرح الذي قدمه ترامب يُحاكي حرفيا أفكار اليمين الصهيوني المتطرف. فمنذ احتلال 1967، يراود التيارات الأشد تطرفا في إسرائيل حلم تحويل غزة إلى منطقة “نظيفة”، وإعادة توطين سكانها خارج فلسطين، سواء في سيناء المصرية أو الأردن.

الجديد في تصريحات ترامب هذه المرة، أنها تحمل المطلب من رئيس أمريكي بشكل علني، مقرونا بتهديدات مالية للدول العربية، تماما كما كان الحال عند فرض التطبيع في سياق “اتفاقات أبراهام”.

والمفارقة أن ترامب يتحدث عن “تطهير غزة” بعد أشهر من حملة دمار غير مسبوقة قادتها إسرائيل، وكأن هدف الحرب لم يكن سوى الوصول إلى هذه اللحظة التي تُطرح فيها فكرة التهجير كحلّ نهائي.

وأخطر ما في خطاب ترامب أنه يحوّل فكرة الاقتلاع من مجرد هاجس لدى التيارات الصهيونية المتطرفة إلى سياسة رسمية مدعومة أمريكيا، في سابقة تفتح الباب أمام تنفيذ أسوأ السيناريوهات، دون أدنى اعتبار للقانون الدولي أو لحقوق الفلسطينيين التاريخية.

في الجهة المقابلة، كان إعلان استشهاد محمد الضيف بمثابة شهادة ميلاد جديدة لفكرة لا يمكن القضاء عليها بالغارات ولا بالاغتيالات. الرجل الذي أمضى عمره تحت الأرض، نجا من عشرات محاولات الاغتيال، ورفض أن يظهر علنا، ارتقى شهيدا على أرضه، بينما يحلم ترامب بأن يرحل كل الفلسطينيين عنها.

لم يكن محمد الضيف مجرد قائد عسكري، بل كان “ذاكرة المقاومة” التي حملت غزة على كتفيها طوال العقود الماضية. والرجل الذي نجا من عشرات محاولات الاغتيال، وعاد كل مرة أقوى، لم يكن مجرد شخصية كاريزمية، بل كان النموذج الأمثل لفكرة المقاومة المتجذرة في الأرض.

لقد حاولت إسرائيل على مدار 25 عاما الماضية اغتياله، لأنها كانت تدرك أن وجوده وحده يكفي لإجهاض أية محاولة “تدجين” للمقاومة. وبرحيله اليوم، تتحول سيرته إلى أسطورة في الوجدان الفلسطيني، تماما كما حدث مع يحيى عياش وأحمد ياسين وسعيد صيام… باعتباره ممثلا لجيل حمل على عاتقه قرار أن الفلسطيني لا يرحل.. بل يقاوم.

قد يعتقد البعض أن رحيل قائد بحجم الضيف يمكن أن يُحدث فراغا في صفوف المقاومة، لكن الحقيقة أن المقاومة ليست فردًا، بل فكرة، والفكرة لا تموت. تماما كما لم يؤد اغتيال عياش وياسين إلى إنهاء حماس، وكما لم يُنه اغتيال خليل الوزير وأبو جهاد مسيرة فتح، فإن استشهاد الضيف ليس سوى محطة جديدة في مسار طويل.

أخطر ما في اللحظة الراهنة ليس غياب الضيف، بل التقاء الرؤية الصهيونية مع السياسة الأمريكية في نقطة لم تصلها من قبل، أي الحديث عن التهجير كحلّ علني ورسمي. فإسرائيل تدرك أن مشروعها لا يمكن أن يكتمل دون إنهاء غزة، وترامب يعرض اليوم “المظلّة الدولية” لهذا السيناريو، لكن المعضلة الكبرى أن الفلسطينيين لم يكونوا يومًا أقرب إلى الفناء مما كانوا عليه في حرب الإبادة الأخيرة، ومع ذلك لم يرحلوا.

لقد كانت غزة دوما أكثر مناطق فلسطين عرضة للتهجير، وهي التي حوصرت وقُصفت ودُمّرت، لكنها ما تزال تقاوم. واستشهاد الضيف اليوم ليس سوى رسالة أخرى بأن الفلسطيني باق في أرضه، وأن غزة ليست للبيع، وأن مشروع التهجير لن يمرّ.

قد تكون الظروف الحالية مثالية لتنفيذ المشروع الصهيوني بوجود إدارة أمريكية يقودها ترامب، بأكثر المستشارين تطرفا، ومن بينهم صهره جاريد كوشنر، الذي لطالما روج لـ”نقل” الفلسطينيين؛ وحكومة إسرائيلية يرأسها نتنياهو، الذي فقد كل أوراقه السياسية ولم يعد يملك سوى استجداء دعم اليمين المتطرف لتنفيذ مشروع الحسم النهائي في غز؛ إلى جانب واقع عربي رسمي يبدو عاجزا تماما عن تقديم أي مواجهة فعلية لهذا الطرح.

لكن، وكما كان الحال دائما، فإن رهانات إسرائيل على تصفية القضية بقرارات فوقية اصطدمت مرارا بجدار الإرادة الفلسطينية. ومنذ النكبة، لم يكن هناك أي مشروع تهجيري إلا ووجد مقاومة فلسطينية شرسة، لأن الفلسطيني يدرك أن “الخروج من فلسطين” يعني خسارتها للأبد.

الاحتلال نفسه يعلم أن تهجير مليون ونصف فلسطيني من غزة ليس أمرا سهلا، لا لوجستيا ولا سياسيا، خاصة في ظل موقف مصري وأردني يرفض استقبال المهجّرين. كما أن فكرة أن يترك الفلسطيني أرضه بإرادته فكرة وُلدت ميتة، والتجربة التاريخية أثبتت أن الفلسطيني قد يقاوم حتى الرمق الأخير، لكنه لن يسير إلى منفاه الجديد طواعية.

ربما يكون محمد الضيف قد ارتقى، لكن المعركة التي قادها طوال حياته لن تنتهي برحيله، بل ستنتقل إلى من يحملون الفكرة من بعده. ومشروع ترامب قد يبدو الآن أقرب إلى التنفيذ مما كان عليه في أي وقت مضى، لكنه يظل مرهونا بمعادلة لم تتغير: لا شيء يمكن أن يقتلع الفلسطيني من أرضه، لا القصف، ولا المجازر، ولا حتى الخطط السياسية المدعومة أمريكيا.