الصحراء.. ماذا عن الداخل؟

أخيرا، وبعد جهد جهيد ومخاض طويل، التحقت بريطانيا بالموقف الغربي الجديد الذي حقّقه الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء.
والمحطة المقبلة، حسب مصادر جيّدة الاطلاع، هي لقاء أو مؤتمر دولي واسع، يرتقب أن تتم الدعوة إليه قريبا، ربما على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة وبتنسيق مغربي أمريكي إماراتي، ومشاركة دولية واسعة؛ لبحث الصيغة الملائمة لسحب ملف الصحراء من أجندة اللجنة الرابعة، المكلفة بملفات تصفية الاستعمار.
خطوة ستكون حاسمة وضرورية ليصبح الملف كليا بين أيدي مجلس الأمن الدولي، والذي باتت اليوم غالبية أعضائه الدائمين مؤيدة للموقف المغربي (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا).
ورغم أن المؤيدين الثلاثة ينتمون إلى المعسكر الغربي المنخرط في معركة حاسمة ضد قوى المعسكر الشرقي، فإن العمل الدبلوماسي الذي قام به المغرب مع الصين يجعل هذه الأخيرة أبعد من أن تمثل عقبة حقيقية أمام أي تحرك لحسم الملف لمصلحة المغرب، فيما لا يشكل النزاع أولوية كبيرة في الأجندة الروسية.
صحيح أن المملكة المتحدة لم تقدم على اعتراف مماثل لما خطّه الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، في الرمق الأخير من ولايته الأولى، ولا هي عزفت النغمة الفرنسية نفسها التي جاء الرئيس إيمانويل ماكرون شخصيا لتقديمها أمام البرلمان المغربي؛ لكن لندن تزحزحت في النهاية ومنحت دعمها للمقترح المغربي بمنح الصحراء حكم الذاتي، أي إنهاء النزاع الدائرة حولها في دائرة السيادة المغربية.
قلتها قبل أيام وأعيدها اليوم:
سيكون من المجحف إنكار ما تعرفه السياسة الخارجية للمغرب في ملفها الحيوي، من زخم واختراقات. التطوّرات الأخيرة لم تحدث قط في تاريخ هذا النزاع، بهذا الحجم والوضوح والميل الصريح للأطروحة المغربية.
الأمر مختلف كليا عن كل الاختراقات التي كانت تتحقق في العقود السابقة، حيث كنا نفرح بين سنة وأخرى بدولة تسحب أو تجمّد اعترافها. نحن اليوم أمام زخم استثنائي، يجمع بين تغيير جذري في الموقف الدولي، ترافقه ترجمة ميدانية على الأرض، من خلال فرض تدريجي للسيطرة المغربية الكاملة على أقاليم الصحراء، بدءا من استرجاع وتأمين معبر الكركرات، ووصولا اليوم إلى إغلاق تدريجي للمنافذ التي كان مسلحو جبهة البوليساريو يستعملونها لضرب الأهداف المغربية من داخل الأراضي الموريتانية.
ما يجري أكبر من أية صفقة ثنائية أو توظيف لفرصة سانحة هنا أو هناك، بل بناء معقّد ومتشابك لشبكة مصالح جديدة، تؤسس لوضع غير قابل للرجعة، من الناحية النظرية.
ولا يمكن فصل ما يتحقق من اختراقات دبلوماسية عن العروض الاقتصادية والصفقات، التي قد نجهل أغلبها لاعتبارات ترتبط بحساسية الموضوع من جهة، وضعف ديمقراطيتنا وشفافيتنا من جهة أخرى، لكن الأكيد أن هذا التقعيد الاقتصادي القائم على علاقات ربح متبادل، يسمح ببعض الثقة في المشهد الجديد الآخذ في التشكل.
الموقف البريطاني الجديد مثلا، لا يمكن فصله عن صفقات الطاقة المعقدة التي أبرمها المغرب في السنوات الأخيرة، أو فتح أراضيه وأسواقه أمام القوى الدولية لإبرامها على الأقل. وتزامن الموقف البريطاني الجديد مع تقدّم الموقف الكيني خطوة صغيرة نحو دعم المغرب، بمناسبة الزيارة التي قام بها الوزير الأول الكيني للمغرب الأسبوع الماضي، قد لا يكون من باب الصدفة، بالنظر إلى النفوذ الاقتصادي الكبير لبريطانيا في كينيا. وبالتالي نحن وإن كانت تعوزنا جل المعطيات والحقائق، أمام نهج براغماتي جديد، يخرجنا من دائرة المواقف الهشة والمترددة.
لكن السؤال الكبير الذي يطلّ علينا كلما تحقق اختراق من مستوى الدعم البريطاني للمقترح المغربي بإقامة حكم ذاتي في الصحراء، هو ماذا عن الجبهة الداخلية؟
أين هم المغاربة من هذا التحوّل الجذري الذي يعنيه الحكم الذاتي في طبيعة الدولة وتوازناتها؟
إن الوطنية في هذا الإطار تقتضي دعم وتثمين الخطوات الإيجابية، لكنها تفرض أيضا التنبيه إلى نقط الضعف ومكامن الخلل. ولن يكون من مصلحتنا يوما أن ننام جميعا في عسل لم نتحقق بعد من جودته ولا أصالته. وليس من باب التشاؤم ولا التبخيس أن نقول إننا نتقدّم لكننا لم نقطع بعض “الواد ونشفو رجلينا”، وهذا لأسباب عديدة من بينها:
• التجربة المغربية في مجال الجهوية والتدبير غير المتمركز أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها فاشلة ومعطوبة ولا تقدّم أية أرضية صلبة وقادرة على استيعاب فكرة الحكم الذاتي وتنفيذها بدون مخاطر أو أضرار جانبية. لقد أطلقنا مسار التشاور الوطني حول الجهوية المتقدمة بشكل متزامن مع طرح مقترح الحكم الذاتي في الصحراء، وهذا أمر إيجابي للغاية، لكننا للأسف الشديد فشلنا في هذا المسار، وحوّلنا الجهوية إلى نموذج مضاد لأي ترافع حول قدرتنا على تغيير بنية الدولة من الناحية الترابية. والوحدات الترابية الجهوية باتت مجرّد قنوات لنقل اعتمادات مالية من الحكومة إلى الولاة، وبالتالي “للي حرث الجمل دكّو”.
• هناك غياب تام وشبه كلي لأي نقاش سياسي وطني، وافتقاد للأدوات الحزبية والمدنية التي يمكنها أن تغذي وتؤطر مثل هذا النقاش. يفترض أننا مقبلون على مرحلة تصبح فيها حكومة ثانية داخل التراب الوطني، إلى جانب الحكومة الحالية، بينما نحن لا نقدّم أي دليل على ترك هذه الحكومة المركزية نفسها، التي تشتغل من داخل أسوار القصر الملكي في الرباط، تتشكّل وتعمل وفقا لما ينص عليه الدستور من اختيار ديمقراطي وتوزيع للاختصاصات والصلاحيات.
• إنهاء النزاع بمنح الصحراء حكما ذاتيا يعني استقبال عشرات الآلاف من المواطنين المغاربة الموجودين حاليا في مخيمات تندوف الجزائرية. بعض الخصوم يتحدثون عن 150 ألف إلى 200 ألف شخص، وبرنامج الغذاء التابع للأمم المتحدة يتحدث عن قرابة 90 ألفا، ولنقل إن الأمر يتعلق بخمسين أو أربعين ألف شخص سيكون من واجبنا استقبالها وإدماجهم. ماذا حضّرنا لذلك؟ أين هي البنيات التي تحدث عنها النموذج الاقتصادي الخاص بالصحراء، والذي أعده المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي؟ أين هي “بيوت العودة” التي ستأوي هؤلاء العائدين؟ ما هي القطاعات والأنشطة الاقتصادية التي سنؤهلهم للعمل فيها علما أن جلهم لم يعرفوا سوى التكوين على القتال؟ من يطرح ويناقش هذا الأمر أصلا؟
• نقول ونردد جميعا صباح مساء إن مشكلة الصحراء تجد أصلها في خلاف وجودي مع الجزائر، أو هاجس جزائري تجاه المغرب بشكل أصح. ويرتبط هذا الأمر بمشكلة حدودية غير منتهية كما يزعم البعض بيننا وبين جيراننا، بدليل ترديد الكثير من الأصوات لموضوع الصحراء الشرقية، وإصرار الجزائر على فكرة المنفذ الأطلسي… التطورات الدولية النوعية التي تحدث حاليا وتصب في مصلحتنا، لا تستحضر هذا البعد الجوهري والحاسم في النزاع، أي إنهاء الخلاف المغربي الجزائري. حتى النخب التي كانت تعرف بعضها البعض من الجانبين، آخذة في الاختفاء بعوامل بيولوجية وسياسية، وبالتالي مع من سنبني هذا التوافق الإقليمي الجديد، الضروي لأي طي نهائي للنزاع؟
إن ما يتحقق اليوم على جبهة الصحراء المغربية من اختراقات ديبلوماسية نوعية ليس نهاية الطريق، بل بدايته الحقيقية. فالمعارك الكبرى لا تُحسم في صالونات الأمم المتحدة ولا في بيانات وزارات الخارجية، بل في قدرة الدول على تحويل الانتصارات الرمزية إلى مكتسبات عملية قابلة للحياة والاستمرار. والمغرب، وهو يقترب من نقطة الانفراج التاريخي لهذا النزاع الطويل، مدعوّ أكثر من أي وقت مضى إلى التوقف مع ذاته، وتأمل مرآته الداخلية، ومساءلة مؤسساته، وإعادة ترتيب بيته من الداخل.
فلا حكم ذاتي دون ديمقراطية فعلية، ولا إدماج للعائدين دون مؤسسات قوية ورؤية تنموية دامجة، ولا إقناع للأشقاء ولا الخصوم دون جبهة داخلية قوية، مؤطرة، واعية، ومنخرطة. والرهان الحقيقي ليس أن نعبر “الواد”، بل أن نصل إلى الضفة الأخرى ونحن نحمل معنا وطنا قادرا على استيعاب الجميع، واحتضان التنوع، وتحقيق الكرامة.
التاريخ لا يرحم الدول التي تربح معارك السيادة وتخسر رهانات العدالة والحرية.