الصحراء.. ثمن هدية واشنطن

بينما يحثّ المبعوث الأممي إلى الصحراء، ستيفان ديمستورا، خطاه في العواصم المحيطة بالصحراء المغربية، استعدادا لجلسة الأسبوع المقبل التي سيعقدها مجلس الأمن الدولي للاستماع لإحاطته؛ وفي لحظة يبدو فيها أن العالم يتشكل من جديد على أنقاض العولمة القديمة، ويتصارع على الخرائط والنفوذ، يحق للمغرب أن يُسجل نقطة مهمة في مسار قضيته الوطنية الأولى.
التصريح الأمريكي الأخير، الصادر أمس الثلاثاء 08 أبريل 2025، عقب مباحثات وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة مع كاتب الدولة الأمريكي ماركو روبيو، لا يترك مجالا للبس: السيادة المغربية على الأقاليم الصحراوية ليست فقط معترفًا بها، بل صارت مُحاطة بتوصيفات جديدة مثل “الحل الوحيد الممكن”، و”الإطار الوحيد للتفاوض”.
لكن، وكما هي عادة السياسة الأمريكية، فإن “الهدية” لا تأتي بدون “ثمن”، و”العبارة” لا تمر بدون “حمولة”.
وبعيدا عن اللغة الدبلوماسية المنمقة، يمكن القول إن واشنطن عادت لتُفعّل موقفها التاريخي الذي كان قد دشنه الرئيس دونالد ترامب في دجنبر 2020، لكن هذه العودة تحمل بعض التعديلات الدقيقة والمفصلية. ففي البلاغ الأمريكي الأخير، نجد تعبيرا جديدا يستحق كل الاهتمام والتركيز، هو “الحكم الذاتي الحقيقي”.
هنا تكمن الإشارة الأهم. فالإدارة الأمريكية لا تكتفي بدعم المقترح المغربي، بل تُلمّح، كما فعلت دائما، إلى ضرورة أن يكون هذا الحكم الذاتي واقعيا، وفعليا، لكنّها هذه المرة تضيف كلمة مفتاحية جديدة وهي أن يكون هذا الحكم الذاتي حقيقيا، وهو ما ينطوي على دعوة صريحة وعلنية إلى جعل هذا المقترح أكثر تفصيلا وربّما أكثر قابلية للتطبيق.
هذا يعني شيئا واحدا: واشنطن تدفع الرباط إلى المرور من خطاب السيادة إلى ممارسة عملية للحكم الذاتي، تليق بالمراهنة عليه كحل نهائي. وعندما نستحضر علاقة واشنطن بمشروع الحكم الذاتي منذ بوادره الأولى، والتي تجعلها أقرب إلى دور “حاملة القلم”، فإن ذلك يجعلنا أمام شبه إعلان عن وجود تصوّر أمريكي جديد ومتكامل حول الحل الذي سيطبّق على الأرض.
لكن ما لا يمكن إنكاره اليوم، هو أن واشنطن ربطت بشكل صريح بين دعمها لمغربية الصحراء وبين “البناء على اتفاقيات أبراهام”. هذا الموقف لم يعد مجرد تأويل أو ليّ لعنق الحقيقة، بل ورد بشكل مباشر في نص البلاغ الرسمي، الذي اعتبر التطبيع مع إسرائيل مكونا أساسيا في الشراكة الاستراتيجية المغربية الأمريكية.
وهنا يُطرح التحدي الأكبر: كيف يمكن للمغرب أن يُوازن بين مصلحته القومية في تثبيت وحدته الترابية، وموقعه الأخلاقي والتاريخي في دعم الشعب الفلسطيني؟
لحد الآن، استطاعت الدولة الحفاظ على توازن دقيق، يرضي المؤسسات الدولية ولا يغضب الشارع المغربي. لكن السؤال المطروح هو: إلى متى يمكن الحفاظ على هذا الخيط الرفيع دون تمزيقه؟
لا شك أن الموقف الأمريكي يُمثل تقدمًا دبلوماسيا مهمًا للمغرب، خصوصا أنه يأتي بعد جمود نسبي في التفاعل الدولي مع الملف. لكن من يظن أن الأمر حُسم يُخطئ.
فالربح الحقيقي لا يكون بمجرد تصريح أو بلاغ، بل في تثبيت الأرضية القانونية والسياسية داخليا، وفي ترجمة مشروع الحكم الذاتي إلى ممارسة ديمقراطية نموذجية تُقنع العالم والشعوب قبل الأنظمة.
الأمر ذاته ينطبق على ملف التطبيع، الذي يجب أن يُدار بعقل الدولة لا بعاطفة اللحظة. فمكاسبنا في ملف الصحراء يجب ألا تكون مشروطة بفقدان رصيدنا الأخلاقي في قضايا الأمة. ومن يزايد في الداخل، عليه أن يُقدم بديلا حقيقيا على طاولة العلاقات الدولية، لا مجرد هتاف من شرفات الفيسبوك.
في مقابل التقدم المغربي، تكاد الصورة على الجهة الأخرى تبدو مأساوية. الجزائر التي طالما راكمت أوراق الضغط في ملف الصحراء، تجد نفسها اليوم محشورة في الزاوية، وتتلقى صفعات متتالية: من فرنسا التي تعترف بمغربية الصحراء وتستعيد علاقاتها الطبيعية مع الجزائر دون أدنى تراجع في هذا الملف، إلى مالي التي تُشهّر بجارتنا الشرقية في مجلس الأمن، إلى النيجر وبوركينا فاسو التي صارت ترى فيها مصدرا لعدم الاستقرار بدل الأخوّة الثورية…
وما يزيد الطين بلّة، هو أن النظام الجزائري لم يعد يكتفي بالمناورة الدبلوماسية، بل انتقل إلى مستوى “القرصنة الإلكترونية”، من خلال ما حدث أمس من اختراق للنظام المعلوماتي الخاص بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ونشر معطيات شخصية وأخرى سرّية لعدد من المقاولات، في خروج مريع عن كل الأعراف الدولية.
هذه ليست دولة تُدير صراعا سياسيا ودبلوماسيا، بل عصابة فقدت بوصلتها، وبدأت تسخر من نفسها أمام العالم.
ومع اقتراب إحاطة المبعوث الأممي ستيفان ديمستورا أمام مجلس الأمن، تجد الجزائر نفسها على مرمى نيران دبلوماسية متعددة الجنسيات. فبينما تتحدث الولايات المتحدة عن إطلاق مفاوضات على أساس الحكم الذاتي، تستعد مالي لتقديم شكاية رسمية ضد النظام الجزائري، وقد يُجبر هذا الأخير على الجلوس وجهًا لوجه مع أعضاء دائمين في مجلس الأمن، وربما لأول مرة مع روسيا والصين، خارج منطق الحماية الآلية.
فهل ستُكرر الجزائر انسحابها كما فعلت في أكتوبر الماضي خلال جلسة التصويت على قرار حول قضية الصحراء؟ وهل سيقبل المجلس مجددًا استمرار الهروب إلى الأمام في ملف لم يعد يحتمل المراوغة؟
لقد دخلت قضية الصحراء المغربية منعطفا استراتيجيا، حيث تُعاد هندسة المواقف الدولية وفق توازنات جديدة.
وفي هذا السياق، فإن ما تحقق في واشنطن لا يجب أن يُقرأ فقط كانتصار، بل أيضًا كمهمة وطنية جديدة: حماية المكسب من التبديد، وتحويله إلى رأسمال سياسي داخلي، وإقناع العالم بأن المغرب لا يطلب اعترافا بسيادته، بل يقدم نموذجًا لدولة مستقرة، عادلة، وذات مصداقية.
هذا هو الامتحان الأكبر.