الحكم الذاتي كمدخل للسلام المغاربي: قد تتحول الصحراء من أزمة إلى فرصة
لم يكن القرار الأممي الأخير حول الصحراء مجرد خطوة دبلوماسية جديدة، بل محطة تاريخية فارقة في مسار نزاع امتد نصف قرن وبات اليوم أقرب إلى نهايته السياسية. فقد حسم المجتمع الدولي، بعبارات أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، أن مبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب سنة 2007 تمثل الحل الواقعي والوحيد القابل للتطبيق، وأن لغة الاستفتاء والانفصال لم تعد تجد صدى في القاموس الأممي الحديث.
غير أن هذا الاعتراف لم يأتِ صدفة ولا بمجرد حسن خطاب، بل هو ثمرة تضحياتٍ ميدانيةٍ متواصلة جعلت المغرب في موقع قوة، بفضل صموده على الأرض وتطويره لقدراته الدفاعية والعسكرية في منطق الردع الذكي، وليس في منطق الحرب. لقد كانت التحصينات الدفاعية، وتثبيت الأمن والاستقرار في المنطقة، والتضحيات التي قدمها الجيش المغربي لسنوات، عوامل مركزية في ترسيخ ميزان القوة لصالح المغرب. فالوضع العسكري المتوازن والميداني المستقر هو الذي أعطى للدبلوماسية المغربية بعدها الفعّال، وحوّل الصحراء من منطقة نزاع إلى مجال تنمية ومشاريع.
كما أن التحولات الجيوستراتيجية الإقليمية لعبت دوراً حاسماً في ترجيح كفة الرباط. فمنذ سنوات، والمغرب يمارس ما يمكن تسميته بـ”الصبر الاستراتيجي” في التعاطي مع الملف، واضعاً ثقة طويلة المدى في منطق الدولة ومؤسساتها، ومتجنّباً ردود الفعل الانفعالية التي سقطت فيها أطراف أخرى. هذا الصبر الهادئ مكّنه من حصد نتائج ملموسة في زمنٍ شهد تغيّر موازين القوى في إفريقيا، وانحسار دور بعض الفاعلين الإقليميين، وصعود المغرب كقوة استقرار تربط بين إفريقيا وأوروبا والعالم العربي.
إن القرار الأممي الأخير، في جوهره ليس سوى تتويج لمسار طويل من التحولات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية، لكنه في الوقت ذاته بداية مرحلة داخلية حساسة تتطلب إعادة صياغة العلاقة بين المركز والأقاليم الجنوبية على أسس جديدة تقوم على المشاركة والمسؤولية والجهوية المتقدمة. فالحكم الذاتي ليس هبة من الدولة ولا تنازلاً سيادياً، بل صيغة مغربية خالصة للحكم الترابي تنبع من رؤية إصلاحية عميقة قوامها توسيع المشاركة المحلية في تدبير الشأن العام مع الحفاظ على وحدة الدولة وهيبتها.
وما يقترحه المغرب ليس مجرد ترتيبات إدارية في منطقة محددة، بل نموذج حكم جديد ينسجم مع روح الجهوية المتقدمة المنصوص عليها دستورياً، ويمكن أن يتحول إلى مختبر مغاربي. ففي عالم تتراجع فيه المركزيات وتتقدم فيه النماذج التشاركية، يشكل الحكم الذاتي، إذا أُحسن تفعيله، أحد أذكى أشكال تدبير التنوع داخل الوحدة، فيتحول من حل إقليمي إلى فلسفة للدولة الحديثة، دولة لا تخشى اللامركزية لأنها واثقة في مؤسساتها، ولا تخاف من التعدد لأنها مطمئنة لهويتها.
لكن، وبرغم أهمية هذه الخطوة، فإن الطريق نحو الحل النهائي لا يخلو من تعقيداتٍ سياسية وإجرائية وسوسيولوجية. فالحكم الذاتي يقتضي أولاً بلورة تفاصيل دقيقة حول الاختصاصات، وهيكلة المؤسسات، وضبط العلاقة بين السلطة الجهوية والدولة المركزية. كما أن مسألة إحصاء السكان تمثل تحدياً أساسياً لا يمكن تجاوزه بسهولة، إذ تشكل قاعدة لأي مسار انتخابي أو تمثيلي في الجهة ذاتية الحكم. إلى جانب ذلك، تبرز إشكالات اجتماعية وثقافية تتعلق بالهوية المحلية، والعلاقات القبلية، وإدماج الأجيال الجديدة في منطق المواطنة المؤسساتية بدل الولاءات الجزئية. إنها أبعاد لا يمكن حلها بنصوص قانونية فقط، بل بسياسات عمومية تراعي الخصوصية السوسيولوجية للمنطقة وتعمل على دمجها التدريجي في النموذج الوطني.
وفي السياق ذاته، لا يمكن إغفال أن نجاح المغرب في إغلاق ملف الصحراء سيُحدث زلزالاً إيجابياً في المشهد المغاربي. فبمجرد أن تُطوى صفحة النزاع، سيجد الاتحاد المغاربي نفسه أمام فرصة تاريخية لإعادة البناء على أسس التعاون الاقتصادي والمصلحي لا على حسابات الخصومة الإيديولوجية. ومن شأن هذا التحول أن يُعيد الدفء إلى العلاقات المغربية-التونسية، إذ من المنتظر أن تنتهي الأزمة القائمة بين البلدين بمجرد طي ملف الصحراء نهائياً، باعتبار أن الكثير من التوترات الدبلوماسية كانت رهينة بهذا النزاع وما تولد عنه من استقطابات. بل أكثر من ذلك، فإن تجاوز الخلاف المغربي-التونسي و المغربي الجزائري قبله طبعا، قد يشكل مقدمة لأن يلعب الاتحاد المغاربي، ومعه دول الجوار، دوراً بنّاءً في دعم الحل السياسي في ليبيا، انطلاقاً من منطق الاستقرار الإقليمي والمسؤولية المشتركة.
إن الانتقال من الاعتراف الدولي إلى البناء الداخلي يستوجب عملاً متدرجاً ومتوازناً على المستويات السياسية والإدارية والدستورية. فمن الناحية السياسية، لا بد من إرساء مؤسسات حكم ذاتي ذات شرعية تمثيلية حقيقية، لأن نجاح التجربة لن يقاس بمدى جمال النصوص القانونية، بل بقدرة النخب المحلية على ممارسة الحكم بروح الكفاءة والمسؤولية. ومن الناحية الإدارية، يجب أن ترافق التجربة خطة دقيقة لنقل الصلاحيات من المركز إلى الجهة في مجالات التعليم والثقافة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، على نحو يحقق التكامل لا التنافر بين المستويين الوطني والمحلي. أما من الناحية الدستورية، فإن وضوح النص هو الضامن لاستقرار الممارسة، ما يستدعي تأطيراً صريحاً للحكم الذاتي يحدد الاختصاصات بدقة ويؤسس لآلية تحكيم بين الدولة المركزية ومؤسسات الجهة.
غير أن التحدي الأكبر لا يختزل في النصوص أو الهياكل، بل في بناء الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع المحلي، لأن الحكم الذاتي لن ينجح ما لم يشعر الصحراويون أنه يعبر عنهم فعلاً وأنهم شركاء لا مجرد مستفيدين. إنها معركة ثقة تُبنى بالتنمية والكرامة والعدالة، وبالقدرة على تحويل الصحراء إلى نموذج مغربي متفوق في الإدارة والعيش المشترك.
القرار الأممي، إذن، ليس نهاية القصة بل بدايتها الحقيقية. لقد انتصرت الدبلوماسية المغربية للعقل على الشعارات وللحكمة على المغامرة، لكن المغرب مدعو اليوم إلى أن يُكمل انتصاره في الميدان الداخلي ببناء نموذج مؤسساتي يجعل من الحكم الذاتي أفقاً لتحديث الدولة لا مجرد حل إقليمي. إنها فرصة نادرة لتجديد العقد الوطني وصوغ مغرب جديد يتسع للجميع، يربط بين السيادة والمواطنة، وبين الوحدة والاختلاف، ويمتد أثره ليعيد الأمل في بناء مغربٍ كبير متصالحٍ مع تاريخه وجغرافيته ومستقبله. ذلك هو التحدي القادم، وذلك ما سيجعل من الصحراء لا مجرد قضية وطنية، بل مدخلاً إلى مغرب المستقبل.