story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الجزائر التي نريد

ص ص

“لن تبخل الجزائر بتقديم دعمها لأي مبادرة للوساطة بين طرفي النزاع، شريطة أن تندرج هذه المبادرة في الإطار الأممي، وأن تحتكم، في شكلها وفي مضمونها، إلى ثوابت الحل العادل والدائم والنهائي لقضية الصحراء الغربية، على النحو المنصوص عليه في جميع قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، بما فيها القرار الأخير رقم 2797”.

هذه الفقرة من خطاب وزير الخارجية الجزائر أمس في ندوة صحافية استثنائية، عنوان لميلاد جزائر جديدة في قضية الصحراء، علينا أن نساعدها أكثر على مواصلة هذا الطريق بعدما عاندت كثيرا في دخوله.

الجزائر التي نريد ليست تلك التي تُحاصِر نفسها بخطاب المكابرة، بل تلك التي تتقدّم خطوة إلى الأمام حين تدرك أن الواقعية السياسية ليست هزيمة، بل مدخلٌ إلى نفوذ أوسع وأثرٍ أنفع.

تصريح أحمد عطّاف عن استعداد بلاده لدعم أي وساطة في ملف الصحراء، ضمن الإطار الأممي ووفق ثوابت القرار 2797، ليس جملة عابرة. هو جسرٌ واضح للخروج المنظّم من مأزق خطاب صَعّد بعد تصويت مجلس الأمن في 31 أكتوبر 2025، ثم اكتشف أن طريق العبور الإقليمي يمرّ من باب التهدئة لا التصعيد.

المقارنة بين لهجة مندوب الجزائر يوم التصويت، ولهجة الوزير عطاف يوم أمس، تكفي لالتقاط التحول من الاعتراض المبدئي إلى إدارة الفوارق داخل المنظومة الأممية والإقليمية نفسها.

هذا ما يلزمنا قراءته لا على أنه تناقض، بل على أنه بداية “النزول من الشجرة” بقدر من الحفظ الرمزي لماء الوجه والموقع الدبلوماسي، الدولي والإقليمي.

لغة عطّاف الجديدة تخاطب واشنطن أولا. فالولايات المتحدة قدّمت نفسها محرّكا للمسار عبر صياغة مسودات القرارات واحتضان فكرة المفاوضات، والجزائر تلتقط الإشارة: لا جدوى من إدارة الظهر لقوة الوساطة المرجّحة، ولا من الرهان على فراغٍ لم يعد موجودا.

حين يقول عطاف إن بلاده لن تبخل بدعم أي مبادرة وساطة في الإطار الأممي، فهو يضع حدّا لمسار الإنكار ويعترف بميزان قوى دولي وإقليمي يتشكّل، وبأن الدور لا يُنتزع بالشعارات بل بمرونة تفاوضية تضبط الإيقاع بدل أن تخرج من القاعة.

هنا معنى “الجزائر التي نريد”، أي ذلك الجار الذي يشتغل بعقل دولة، لا بعصب تنظيم.

صحيح أن الخطاب لا يخلو من بقايا الهروب إلى الأمام، من خلال التشديد على أن القرار لم يجعل الحكم الذاتي أساسا وحيدا، وعدم الإقرار الصريح بسيادة المغرب أفقًا نهائيا. لكنّ هذا “التحفّظ” جزءٌ من هندسة الهبوط الآمن من أعلى شجرة اعتصمت الجزائر كثيرا بقمّتها.

المهم الآن ليس محاسبة اللغة الانتقالية، بل تثبيت الاتجاه. والمطلوب مغربيا هو توسيع هوامش هذا التحول عبر مسارين متوازيين: الأول هو تعظيم كلفة العودة إلى الوراء دبلوماسيا عبر تثبيت مرجعية مجلس الأمن وواقعية مبادرة الحكم الذاتي باعتبارها الحلّ الوحيد العملي. والثاني هو تقليص كلفة المضيّ قدما أمام الجزائر، عبر بوابة ضمانات الأمن الإقليمي والتكامل الاقتصادي في الساحل والصحراء، لأن “شراكة الاستقرار” تُقنع أكثر من “مرافعات التاريخ”.

هيمنة خطاب “الأمن والاستقرار” في حديث عطّاف ليست صدفة. ونصف الندوة تقريبا خُصِّص لغزة، والنصف الآخر تقاسمه ملفّا الصحراء ومالي. هذا هو الثالوث الذي سترسم عبره الجزائر تموضعها المقبل: شرعية إنسانية عبر فلسطين، وورقةُ أمن إقليمي عبر مالي، ومخرجٌ تفاوضي عبر الصحراء.

التصويت لصالح القرار الأمريكي بشأن غزة كان عملية “تحنيط” ناجحة لخطاب قديم، لكنه كان أيضا بطاقة عبور إلى لغة براغماتية تتذكّر مصالح الطاقة والممرّات والموانئ والحدود أكثر مما تستعيد أناشيد الحرب الباردة.

وهل يُبنى نفوذٌ إقليمي اليوم دون بنية أمنية مشتركة ومبادلات طاقية وممرّات لوجستية عابرة للحدود؟

أكّد الوزير عطاف أن مجلس الأمن “لم يفصل لا في أساس المفاوضات ولا في نتيجتها”، وأن المسار سيبقى “تحت الرعاية الأممية”. والقراءة الذكية هنا أن الجزائر لم تعد تبحث عن كسر الطاولة، بل عن مقعدٍ مؤثر عليها. وهذه فرصة.

المطلوب هو تحويل “دعم الوساطة” من صيغة لفظية إلى التزام إجرائي. أي قبولٌ صريح بالمائدة الرباعية التي تجمع المغرب والجزائر والبوليساريو والأمم المتحدة، وفق جدول زمني واضح، وضمانات أمن حدود تُنزع منها كل الذرائع. عندها فقط يصبح الخلاف سياسيا وقابلا للترتيب، لا مستعصيا على الحل.

هذا التحول يخدم الجزائر نفسها. فالاقتصاد يحتاج إلى استثمار خارجي لا يدخل مناطق التوتر، وإلى حدود جنوبية لا تتعرّض لضغط شبكات التهريب والجماعات العابرة، وإلى مجال مغاربي لا يبدّد فرص التكامل.

أيّ أننا أمام بوادر دبلوماسية رشيدة تقرأ الخسائر الصافية لاستدامة التوتّر، وترى في الواقعية رصيدا سياسيا داخليا لا خصما.

الجزائر التي نريد لا تختبئ وراء قاموس “المبادئ” كي تُدير صراع نفوذ مكلف للجميع، بل تُحوّل المبادئ إلى آليات منها الوساطة الأممية، والأمنٌ الحدودي المشترك، واقتصاد مفتوح، واحترام متبادل لسيادة الدول.

نحتاج بدورنا إلى التقاط الإشارة والبناء عليها، لا أن نكتفي بالتصفيق لمفارقات الخطاب الواضحة. واختبار الجدية يكون بإجراءات من قبيل دفع المبعوث الأممي إلى أن ينتقل من الاستماع إلى التفاوض وهندسة إجراءات بناء ثقة عملية في معابر محددة، وتحييد الدعاية وتهيئةُ رأيٍ عام مغاربي يربط الكرامة بالأمن والازدهار، بدل الخصومات اللامتناهية.

حين تتقدّم الجزائر نحو الواقعية، فإن أسوأ ردّ هو دفعها إلى العودة إلى خطابها القديم.

الجزائر التي نريد تتقدّم إلى دور المشارك في استقرار الساحل، لا المنافسِ على استدامة التوتر. نريد جزائر بلغةً تُخاطب المستقبل. وتصريح عطّاف ليس نهاية الخلاف، لكنه بداية ممكنة في الطريق الصحيح.

وفي السياسة، البدايات التي تُدار بعقل بارد وتصور مؤسسي هي التي تصنع النهايات السعيدة.