story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

التراكم عبر الاستحواذ: آلية بنيوية في الرأسمالية المعولمة وتجلياتها في السياق المغربي

ص ص

يتكرّس منطق ” التراكم عبر الاستحواذ”(l’Accumulation par la Dépossession )، كآلية بنيوية للرأسمالية المعاصرة، حيث لم يعد الإنتاج الحقيقي هو المصدر الرئيسي للثروة، بل أصبح النهب والاستحواذ أدوات رئيسية لتغذية مصالح نخب سياسية ومالية متنفذة. وهو أحد مظاهر البارزة للنيوليبرالية المعولمة.

وفي المغرب، يتعمّق اليوم منطق “التراكم عبر الاستحواذ”، من خلال خوصصة المرافق والموارد، وتفكيك الحقوق الاجتماعية، مما يزيد من تركّز الثروة وتعميق الفوارق؛ في المقابل، تواجه الفئات الشعبية البطالة وغلاء المعيشة والتهميش.

يفرض هذا الواقع، فهما معمقا للظاهرة لمواجهتها من أجل تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية، تمر بالضرورة عبر حماية الممتلكات الجماعية، وتعزيز الرقابة، وضمان توزيع عادل للثروات. إن مواجهة منطق النهب المنظّم ليست خيارًا، بل ضرورة لبناء مغرب أكثر عدلاً وإنصافًا.

الجزء الأول : التراكم عبر الاستحواذ: الإطار النظري، الديناميات البنيوية، والآثار متعددة الأبعاد

مقدمة: الإطار النظري

في قلب النظام الرأسمالي المعاصر، تبرز آلية ” التراكم عبر الاستحواذ” كواحدة من أبرز الأدوات التي يلجا إليها رأس المال لتجديد نفسه وتجاوز أزماته باستمرار، ليس عبر الإنتاج و خلق الثروة، بل عبر نزع ملكية الموارد العامة والمشتركة وتحويلها إلى مصادر ربح خاصة.  

يرجع الفضل في تطوير هذا المفهوم إلى الجغرافي ديفيد هارفي (David Harvey )، الذي طور مفهوم  “التراكم البدائي”، الذي ابدعته النظرية الماركسية، إذ وصف كارل ماركس “التراكم البدائي” بأنه عملية تاريخية أولية، عنيفة ووحشية، مكّنت من ظهور الرأسمالية عبر تجريد الفلاحين من أراضيهم، والحرفيين من وسائل إنتاجهم، ونهب ثروات المُستعمرات بالقوة، واستعباد ملايين الأفارقة لتغذية اقتصاد رأسمالي يقوم على العمل المجاني. كما أعتمد عمل “هارفي” على تقاليد نظرية سابقة، خاصة مع روزا لوكسمبورغ، التي اعتبرت بأن “التراكم عبر الاستحواذ” لا يقتصر على “التراكم البدائي”،  بل هوعملية مستمرة وضرورية لتوسع الرأسمالية في القطاعات غير الرأسمالية

يعتبر هارفي، “التراكم عبر الاستحواذ”، بأنه العملية التي توسع بها الرأسمالية نطاق نفوذها وتتغلب على أزماتها الداخلية من خلال الاستيلاء على الأصول (les actifs ) التي كانت في السابق مشاعة، أو مملوكة للقطاع العام، أو غير رأسمالية. إنه شكل من أشكال التراكم غير المحدود الذي لا يعتمد فقط على إنتاج السلع وتبادلها، بل على الاستيلاء على الموارد والحقوق وخوصصتها، وانتهاك حقوق فردية و جماعية .

يصبح هذا المسعى حاسمًا عندما تُظهر طرق التراكم التقليدية (L’accumulation élargie) (التراكم الممتد)، القائمة على الاستثمار المنتج، علامات الإرهاق، وانخفاض الربحية، وهوما يحرر أصولًا جديدة بتكاليف منخفضة، ويوفر فرصًا جديدة للربح السريع دون مجهود أو مخاطرة. وتلعب الدولة هنا دور الوسيط المُيَسر، عبر تشريعات “إصلاحية”، أو برامج “تحديث”، بل وقد تستعمل القمع والاكراه المباشر.

وقد قام دافيد هارفي بتحيين مفهوم “التراكم البدائي”، محوّلاً إياه من لحظة تاريخية إلى عملية دائمة وبنيوية تشكّل جوهر الرأسمالية، خاصة منذ سبعينيات القرن الماضي. وبذلك، قدّم أداة مفاهيمية قوية لتحليل و فهم العولمة النيوليبرالية، حيث كشف عن الأشكال الحديثة للتراكم عير الاستحواذ.

يجد اليوم هذا الشكل من التراكم بيئة خصبة للتوسع والتمدد داخل “بلدان المحيط” مثل المغرب، في ظل أزمات بنيوية، وتواطئ سياسي واقتصادي،  داخل أنساق استبدادية وسلطوية، لا تتوانى عن استعمال العنف والإكراه الذي يتخذ  صورا متعددة،  كعمليات الطرد التعسفي، والتهجير القسري، والتلاعب بقواعد التنافس ومختلف أشكال الفساد، وقمع الحركات الاجتماعية، وعسكرة مناطق استخراج الموارد و غيره؛ بينما يعتمد هذا الشكل من التراكم  في “بلدان المركز” آليات الهيمنة (hégémonie)، والتي ترتكز أساسًا على الوسائل القانونية والماليةّ، مثل رفع القيود التنظيمية، والإصلاحات التشريعية، وآليات السوق، والضغط السياسي، والتلاعب بالمعلومات. وتتميّز هذه الآليات بكونها أقل اعتمادًا على العنف المادي المباشر.

  1. أسباب وأشكال التراكم عبر الاستحواذ

الأسباب العميقة لتوسع آليات الاستحواذ

تتعدد أسباب هذه الظاهرة، وهي مرتبطة بشكل وثيق بديناميات الرأسمالية نفسها، وعلى رأسها:

  • تراكم رأس المال الفائض والميل لانخفاض معدل الربح: عندما تنتج الرأسمالية أكثر مما يمكن استيعابه داخل السوق، وتتضاءل فرص الاستثمار المربح في الإنتاج التقليدي، فإنها تبحث عن طرق جديدة للنمو، حيث يوفر الاستحواذ بنزع الملكية مخرجًا عن طريق “تحرير” أصول جديدة بتكلفة منخفضة.
  • البحث المستمر عن حدود جديدة للتراكم: بالنسبة لرأس المال، فإن كل ما لم يتحول بعد إلى سلعة، أو لم يخضع لمنطق السوق يمثل إمكانات ربح غير مستغلة.
  • الأزمات الاقتصادية والمالية: تعد فترات الأزمات مساعدة  لعمليات الاستحواذ، حيث تضعف المقاومة، وتُبرِز إجراءات التقشف التي تفكك الحماية الاجتماعية، وتُخَوصص الخدمات العامة.
  • فساد النخب والطبيعة الريعية للرأسمال: إن فساد النخب وجشع الرأس المال المحلي يشكلان أسبابا عميقة لآليات “التراكم عبر الاستحواذ”، من خلال ممارسات تُضعف الدولة، وتُحول الموارد العامة، وتُوجه الاقتصاد نحو مكاسب انتهازية وسريعة، بدلاً من تحقيق تنمية متوازنة وشاملة؛ إنهما يخلقان بيئة ملائمة لنقل ممتلكات وحقوق الأغلبية لصالح الأقلية.

تلعب الدولة والمؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي ـ  البنك العالمي)  دورا محوريا وحاسمًا في شرعنة وتسهيل عملية الاستحواذ عبر سياسات وقوانين وممارسات موجهة.

أشكال “التراكم عبر الاستحواذ”

تتخذ أشكال “التراكم عبر الاستحواذ” مظاهر متنوعة، وتؤثر على المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والبيئية ..، وتتجلى خصوصا في:

  • خوصصة وتسليع الخدمات العمومية: وذلك عن طريق تحويل الموارد والخدمات التي كانت تُدار بشكل جماعي أو عمومي (كالصحة والتعليم والمياه والطاقة..) إلى مشاريع ربحية.
  •  نزع الملكية عبر التهيئة الحضرية: مثل نزع الملكية، والتهجير القسري، وبرمجة مشاريع كبرى، و”تجميل المدن”  (gentrification).
  • افتراس الموارد الطبيعية: ويتم ذلك بالاستيلاء على الأراضي والمياه والمعادن وغيرها من الموارد الطبيعية.
  • التراجع عن الحقوق المكتسبة: بتفكيك الحقوق الاجتماعية (الحماية الاجتماعية، الصحة العامة، التقاعد..)، وتحويلها إلى القطاع الخاص.
  • الأمولة (financiarisation) والتلاعب بالائتمان: باستغلال الأزمات المالية لتركيز الثروة والملكية  المالية.
  • احتكار التكنولوجيا والملكية الفكرية: من خلال التحكم في التقنيات الجديدة والمعارف وتملكها عبر براءات الاختراع، مما يخلق عوائد احتكارية.
  • تضارب المصالح، والفساد الكبير، والأرباح الفاحشة للاحتكارات: تُعتبر هذه، كلها آليات مباشرة للاستحواذ، حيث تسهم في تحويل الثروة والحقوق من ملكية القطاع العام، أو المجتمعات المحلية أو الفئات الأضعف إلى النخب السياسية والاقتصادية.

2. التداعيات والسياقات الحديثة ل”التراكم عبر الاستحواذ”

إن التداعيات الناتجة عن “التراكم عبر الاستحواذ “، عميقة وتتجلى في مستويات متعددة ومنها:

  • تفاقم التفاوتات الاجتماعية والمجالية: حيث يؤدي هذا التراكم إلى تركيز الثروة في “أيدي” أقلية، ويوسع قاعدة الفقر والبطالة والتهميش، وفقدان سبل العيش، ويسبب نزوح السكان.
  • تداعيات اقتصادية: يشمل ذلك، زيادة الدين العام والخاص، وضعف الاستثمار المنتج للثروة، وتقلص نسب النمو، بما لذلك من انعكاسات على  خلق مناصب الشغل الضرورية.
  •  تداعيات بيئية: يؤدي “التراكم عبر الاستحواذ” إلى تدهور النظم البيئية، والمساهمة في تغير المناخ نتيجة الإفراط في استغلال الموارد الطبيعية، وتلويث البيئة، مما يفاقم الأزمات البيئية كالتي تؤدي إلى نقص المياه والتصحر.
  • تآكل السيادة الشعبية: حيث تفقد الشعوب و المجتمعات السيطرة على مواردها وقراراتها.

 تتضح نظرية “التراكم عبر الاستحواذ ” من خلال أمثلة ملموسة وفي سياقات معاصرة، حيث قام العديد من الباحثين بتحديث وتطبيق هذا المفهوم على ظواهر متعددة منها:

  • تجاوزات النيوليبرالية: استخدم هارفي نفسه، هذا المفهوم في كتابه “موجز تاريخ لليبرالية الجديدة”، لشرح كيف أن السياسات النيو ليبرالية (كالخوصصة، رفع القيود التنظيمية، والأمولة..) أساسية لتحويل الثروة العامة والخدمات المشتركة إلى “أيادٍ” خاصة، وغالباً بوسائل قسرية أو عنيفة.
  • نزع الملكية البيئية: حلل باحثون مثل الفيلسوفة نانسي فريزر(Nancy Fraser) وعالم الاجتماع جيسون دبليو مور(Jason W. Moore)، – وإن استخدموا مصطلحات مختلفة- كيف يؤدي تدهور البيئة والاستيلاء على الموارد الطبيعية  (الأرض، الماء، الغابات، التنوع البيولوجي..)، لتوسع الرأسمالية ونزع ملكية المجتمعات المحلية، وتقويض التكاثر البيئي. ويُستخدم هذا المفهوم على نطاق واسع في دراسات العدالة البيئية والنزاعات على الموارد
  • نزع الملكية الرقمي والبيانات: في العصر الرقمي، يوسع بعض المنظرين المفهوم ليشمل تحويل الحياة إلى بيانات. إذ يؤكد باحثون مثل نيك كولدرى(Nick Couldry) وأوليسيس أ. ميخياس (Ulises A. Mejias  )، على إعادة التفكير في البيئة الرقمية، باعتبارها شكلاً متجدّدًا من أشكال الاستغلال الرأسمالي، حيث تتحوّل الحياة البشرية إلى مادة أولية تُستخرج وتُستثمر. ويوفّر هذا المفهوم أداة نقدية أساسية لتحليل أشكال اللامساواة الجديدة.
    نزع الملكية في الوسط الحضري: يطبق الباحثون في الدراسات الحضرية مفهوم “التراكم عبر الاستحواذ”  لتفسير التحولات البشرية  والاقتصادية في بعض الأحياء الحضرية   Gentrification)) من خلال التهجير القسري للسكان الفقراء، وهدم منازلهم، وأحيائهم لإفساح المجال لفئات أكثر ثراءً و لمشاريع أكثر ربحية.
    أنظمة الغذاء والصناعة الزراعية: يستخدم الباحثون الذين يركزون على أنظمة الغذاء العالمية مثل فيليب ماك مايكل (Philip Mc. Michael)، وساتورنينو بوراس الابن ( Saturnino Borras Jr  )، “التراكم عبر الاستحواذ”، لتحليل الاستيلاء على الأراضي، وسيطرة الشركات الكبرى على بنوك البذور، مما يؤدي إلى تهميش صغار المزارعين وتآكل السيادة الغذائية.

    خاتمة: نحو فهم أعمق
  • يكتسي مفهوم “التراكم عبر الاستحواذ” أهمية خاصة لفهم الديناميات في بلدان رأسمالية المحيط ومنها المغرب؛ ففي هذه المجتمعات  تتفاقم آليات” التراكم عبر الاستحواذ” بسبب هشاشة الهياكل الاقتصادية والاجتماعية، وضعف الأطر التنظيمية، واستعمال العنف والإكراه  وضعف المؤسسات، أمام ضغوط الرأسمال، وتفشي الفساد وتضارب المصالح .
  • ولتعميق فهم آليات الاستحواذ في السياق المغربي سنتطرق في مقالات لاحقة لتحليل هذه الظاهرة في قطاعات محددة خصوصا الفلاحة، والعقار والخدمات العمومية، والاستحواذ عبر ظاهرة الفساد والريع، في أفق بناء وعي جماعي مقاوم لهذا النهب المقنن باسم “الإصلاح” و”الاستثمار.”..