“الإصلاح من الداخل”.. عندما يتحول الهامش إلى حقل ألغام
منذ توقيع رئيس الحكومة السابق، الدكتور سعد الدين العثماني، على اتفاقيات التطبيع مع الكيان الصهيوني، لم يهدأ الجدل حول مدى المسؤولية السياسية والأخلاقية التي يتحمّلها الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية وحزبه في تلك الواقعة. وقد تباينت مقاربات هذا الجدل بين من يبني موقفه على معرفة شخصية بالرجل ومساره النضالي، ومن يعتمد قراءة سياسية صارمة تستند إلى منطق المسؤولية والقرار.
فمن جهة، ينطلق بعض المدافعين عن العثماني من شهادات شخصية حول صدق مواقف الرجل التاريخية الداعمة للقضية الفلسطينية، ويعتبرون توقيعه لحظة ضعف فردي أمام جبروت نظام سياسي مركزي القرار. وفق هذا التصور، فإن التطبيع قرار دولة بكاملها، وليس قرار رئيس حكومة، وأن تحميله كل هذا الوزر هو تجاهل لبنية السلطة في النظام السياسي المغربي وطبيعة توزعها بين مركز قوي وهامش محدود الفعالية.
في المقابل، يذهب آخرون إلى أن التطبيع مع الكيان الصهيوني فعلٌ تبلغ خطورته حدّا لا يتيح بأي حال فتح نافذة للتبرير أو التعليل بالعجز. فالمسؤولية السياسية ـ في نظرهم ـ لا تنتفي بحسن النوايا، ومن يوقع يتحمل -هو وحزبه- وزر توقيعه، مهما كانت مشاعره أو دوافعه أو قناعاته الشخصية. فـ”الرصاصة قد أُطلقت”، ولا يمكن للضاغط على الزناد الادعاء بأن إصبعه تحرك رغما عنه، وقد شاهد المغاربة مراسيم التوقيع ورأوا رئيس الحكومة متحكما في كامل جسده، لا تبدو عليه علامات الإكراه الظاهر.
صورة من هذا الجدل استعادتها ندوة علمية بكلية الحقوق السويسي حول واقع الأحزاب السياسية المغربية، حيث أثار أحد الأساتذة نقطة بالغة الأهمية: هل تُعفى الأحزاب السياسية من المسؤولية في الأنظمة غير الديمقراطية؟
ينتقد المتدخل ما يعتبره “بديهيات مضللة” في التحليل السياسي، تقوم على التسليم بأن الأحزاب لا تمتلك قرارا حقيقيا في الأنظمة السلطوية. ويرى أن هذه الفكرة ـ رغم شيوعها ـ غير مستندة إلى دليل علمي قوي. فالأحزاب، في أي نظام سياسي، تمتلك دائما قرارها، ومن يرضخ فقد اختار الرضوخ. إذ مَنْ ذا الذي يستطيع إرغام حزب قرر، على سبيل المثال، الانسحاب أو عدم المشاركة أو الامتناع عن توقيع خطوة يراها مناقضة لمبادئه؟
قد يرى بعضهم أن المتدخل يوجّه النقد إلى الحلقة الأضعف في المشهد السياسي، بتسليط الضوء على الأحزاب بدل مساءلة البنية الصلبة للسلطة. غير أن التمعن في أطروحته يكشف أنها ليست مجرد قسوة في التقييم، بل تحمل دعوة معرفية إلى إعادة التفكير في مسؤولية الفاعل الحزبي، وفي حدود ما يمكن أن يفعله أو أن يمتنع عن فعله، بغض النظر عن طبيعة النظام القائم.
فالمتدخل يرفض ـ وبحق ـ الانسياق وراء خطاب تبرير العجز، ويرى أنه أقرب إلى حالة نفسية منه إلى توصيف علمي للواقع، إذ لا يوجد نظام سياسي، مهما بلغ من القوة والجبروت، قادر على سلب الأفراد ـ ومن ثمّ الأحزاب ـ إرادتهم الحرة أو إلغاء قدرتهم على اتخاذ موقف مستقل.
ومن هنا يمكن إعادة صياغة الإشكال على النحو التالي: هل يمكن للفاعل السياسي الحزبي أن يتنصل من المسؤولية بحجة ضيق الهامش، أم أن المسؤولية السياسية والأخلاقية تبدأ من لحظة قبول لعب الدور داخل هذا الهامش؟
إن الجواب عن هذا السؤال ضروري لفهم لحظة التوقيع، وفهم بنية العلاقة بين الدولة والأحزاب، وكذلك لفهم حدود الفعل السياسي الممكن في المغرب اليوم.
ينطلق بعض الفاعلين الحزبيين الذين يقبلون الاشتغال داخل هذا الهامش من خيار “الإصلاح من الداخل”. وبحكم طبيعة واقع هذا الخيار، يجدون أنفسهم يسيرون في حقل من الألغام، حقلٍ لا يُدرى أين يختبئ انفجاره التالي. فهذا هو حقل النظام الذي يأملون إصلاحه، ومن يدخل إليه يعلم أن اجتهاده في تحسس مواضع الأقدام لا يحول دون احتمالية أن يطأ لغما خبيثا يترصده.
ومن حيث المبدأ، لا يسوغ إصدار إدانة قبلية قاطعة في حق فاعل حزبي يرى في نفسه القدرة على مراوغة تلك الألغام، ويعتقد أن خوض هذا المسار يدخل في نطاق مسؤوليته التاريخية. ولا يجوز ـ من الناحية النظرية على الأقل ـ الجزم باعتبار جرأته تهورا لمجرد أننا نرى المخاطر من الخارج أو نحيل على تجارب لم تُفضِ إلى النجاح، ففي كل مجال يُقال إنّ هناك عقولا استثنائية قادرة على بلوغ ما لا يبلغه غيرها. وقد يكون الفاعل المعني واحدا من هذه الحالات الخاصة التي يُفترض أنها تُنجز ما استعصى على الآخرين، وإن كان الواقع لا يُغري كثيرا بتصديق هذا الافتراض.
غير أنّ ما لا يصح التساهل فيه هو أن يجر هذا الفاعل الحزبي الجسم التغييري بأكمله إلى الحقل نفسه، وأن يُحوّل خيارا محفوفا بالمخاطر إلى استراتيجية عامة وحيدة للشعب المغربي للتغيير. فالفاعل الذي يختار العمل داخل مجال ضيّق الهامش يدرك مسبقا أن المخاطرة مُكوّن بنيوي من مكونات هذا الخيار، وأن هشاشة السياق ليست معطى مفاجئا بل جزء من شروط اللعبة التي قبل الولوج إليها.
ومن ثمّ، فإنّ مسؤوليته السياسية والأخلاقية تفرض عليه تحمل تبعات قراراته كاملة حين ينفجر فيه لغم بسبب خطأ تقدير أو ضعف تنفيذ، أو حين يَسفر اختياره عن إخفاق أو انزلاق، بدل اللجوء إلى تبريرات لا تخدم قضية الإصلاح والتغيير، بل تسيء إليها وتُلحق بها ضررا بالغا. فالإقرار بالمسؤولية هنا ليس ترفا أخلاقيا، بل شرط للحفاظ على سلامة القضية وحمايتها من ارتدادات الانفجارات التي ينبغي ألّا يتجاوز مداها نطاقَ أصحاب القرار، حتى لا تُعرض قضية الإصلاح للتمييع أو يلتبس الحق بالباطل لدى عموم الناس.
وفي هذا الإطار، يصبح الاعتراف العلني بسوء التقدير ممارسة سياسية رفيعة، ودليلا على إخلاص للمبدأ أكثر مما هو إعلانُ ضعف. ورغم ما قد ينطوي عليه من قسوة، فإن هذه القسوة نفسها تُعدّ الثمن الضروري لضمان استمرار مسار الإصلاح، وسدا أمام محاولات الإضعاف التدريجي أو تفكيك جوهر الفكرة التي يستند إليها مشروع التغيير.
قد يجادل المتمسكون بمقاربة “تراكم مكاسب الهامش” بأن الاعتراف العلني بالمسؤولية ليس خطوة بلا كلفة، بل لغمًا آخر يترصد الفاعل الحزبي، إذ يُنظر إليه كحلقة إضافية في منظومة استدراج أوسع، يدفع فيها النظام ـ في تقديرهم ـ الأحزاب الإصلاحية إلى أحد خيارين أحلاهما مُرّ: إمّا الرفض المقرون بتحمّل المسؤولية السياسية عن التوقيع، بما يعنيه من القطيعة مع السلطة، وإمّا الصمت بما يفضي إلى اتساع المسافة بينها وبين الناس.
وفي مقابل هذين الخيارين، يقترح المدافعون عن هذه المقاربة حلًّا ثالثا يقوم على البقاء في منطقة رمادية لا تُغضب السلطة كثيرا ولا تُلحق ضررا كبيرا بقاعدة الحزب الشعبية. ويُعوَّل في هذا التكتيك على قدرة الجمهور على تمييز النوايا وفهم القيود البنيوية، وعلى الإيمان بأن رئيس الحكومة السابق، السيد العثماني، ـ في جوهره ـ ليس مطبّعًا، وأن موقع رئاسة الحكومة هشّ داخل بنية القرار السياسي. وهو تكتيك يُجنّب الحزب الإقرار العلني بأن التوقيع كان خطأ سياسيا جسيما، وأن رفضه كان ممكنًا من حيث المبدأ، لِما قد يُفهم من ذلك الإقرار من اصطفاف خارج الهامش المسموح، أو يُقرأ باعتباره شكلا من مصادمة الدولة.
غير أنّ لغما بحجم التطبيع كان أقوى من قدرة هذا التكتيك على الصمود. فما جدوى مقاربة “الإصلاح من الداخل” إذا كانت ستفضي بأصحابها، عند لحظة الاختبار، إلى التوقيع على إحدى أكبر محرماتهم الأخلاقية والسياسية؟
إنّ استمرار الرهان على “ذكاء الناس” دون مصارحتهم عندما تقتضي اللحظة السياسية ذلك، لا يزيد الفاعل الحزبي إلا ابتعادا عن مصدر قوته الحقيقي المتمثل في امتداده الشعبي. وهو ما يعمّق المخاوف من أن يتحول الاشتغال داخل الهامش إلى وهم وظيفي يخدم، في نهاية المطاف، استقرار البنية السلطوية أكثر مما يخدم مشروع الإصلاح نفسه.
بين تكتيك المناورة، وخطاب تبرير العجز، وشجاعة وذكاء الموقف الصريح، يجد الفاعل الحزبي المغربي نفسه اليوم أمام تحديات كبرى، قد تدفعه إلى إعادة تعريف فضاء الفعل السياسي الحزبي، على نحو يجعله مجالا لفعل مؤثر يستثمر الممكنات، ويُحَول الفرص إلى مكتسبات سياسية حقيقية.