story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الإرهاب والشباب

ص ص

قررت منذ بداية الأسبوع الحالي، تخصيص مقالي لهذا اليوم، الخميس 20 فبراير 2025، للذكرى السنوية للخروج الشعبي الكبير الذي حدث في مثل هذا اليوم من عام 2011، وتبعه خروج ملكي مشهود يوم 9 مارس الموالي، وهو ما أثمر وثيقة دستورية لا ينكر قيمتها اليوم سوى جاحد.

لكن العملية الأمنية النوعية التي جرت أمس في عدد من مدن المغرب بشكل يكاد يغطي كامل الخريطة الوطنية شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، لا يمكن أن يطوله التجاهل، لحجم وقيمة العملية وما تشير المعطيات الأولية المتوفرة إلى أنه كان خطرا وشيكا من جهة، ثم لسبب آخر لاحظته، كما لاحظه العديد من الزملاء والمهتمّين، وهو ظهور نوع من “التطبيع” مع مثل هذه العمليات الأمنية، بل وبروز بعض الخطابات التي تحملها تعليقات مستخدمي الشبكات الاجتماعية، التي تستهين بالأمر كلّما جرى الإعلان عن تفكيك خلية إرهابية. بل إن البعض، وإن كانوا أقلية قليلة، يصل إلى درجة التشكيك والتسفيه، وهو ما لا ينبغي أن يترك كل ذي ضمير، بعيدا عن الموضوع.

الظاهرة الإرهابية أمر واقع وتهديد حقيقي وقائم، سواء لأسباب ترتبط بانتشار التطرّف والغلوّ وانسياق البعض وراء الخطابات المحرّضة على القتل والتدمير باسم الدين؛ أو لاعتبارات جيوسياسية، إقليمية ودولية.

لا يمكننا بعد كل ما عشناه منذ شتنبر 2001، أن نتجاهل كون التنظيمات الجهادية، وإن كانت تصنّف نظريا ضمن الفاعلين غير الدولتيين، إلا أنها في كثير من الملفات والحروب والتوتّرات، أكدت أنها ورقة تلعبها بعض الدول والكيانات، لإضعاف خصومها وفرض أمر واقع جديد، سواء بالمعنى العسكري-الأمني أو بالمعنى الاجتماعي-الديمغرافي.

هذا الارتباط المتزايد بين مصادر التهديد الإرهابي للمغرب، ومنطقة الساحل والصحراء، لا يمكن أن يكون منفصلا كلّيا عن المعارك التي يخوضها المغرب من أجل حماية وحدته الترابية وأمنه القومي. ولا يمكن لهذا الإصرار الذي تبديه الخلايا الإرهابية المفككة حديثا، على تحويل المجال الواقع جنوب الصحراء إلى مشتل تستنبت فيه المشاريع الإرهابية، بعيدا تماما عن التطوّر العسير الذي يحقّقه المغرب من أجل استعادة روابطه التاريخية مع هذا المجال، ومن ثم استعادة أدواره الحيوية في المنطقة.

لهذا لا يمكن لعاقل، مهما دفعه “ورعه” إلى اتقاء شبهة الانخراط في جوقة المبشّرين بالدولة البوليسية، أن يصمت أمام حالات، وإن كانت تبدو قليلة ومعزولة، من التشكيك والتسفيه.

كما لا ينبغي للمجتمع أن يكون محايدا أمام “تبليغ” مؤسساته الأمنية عن مشاريع إجرامية تستهدف بشكل خاص عناصر وموظفي ومسؤولي هذه المؤسسات، لأن الأمر يتعلّق بمواطنين يؤدون خدماتهم لهذا المجتمع أولا، ولا يمكن التساهل مع استهدافهم أو تهديدهم في سلامتهم.

ولا يمكن أن نضيع هذه الفرصة لنقول إن علاقة المجتمعين السياسي والمدني مع المؤسسة الأمنية، تحتاج إلى اشتغال إرادي لإزالة الرواسب المتراكمة على مدى عقود وسنوات، وبناء ثقة جديدة قوامها الالتزام للقانون وروح الدستور من جانب المؤسسات الأمنية، وتجاوز خطابات التشكيك والريبة التي ورثها الفاعلون السياسيون والمدنيون عن حقبة الانتهاكات الجسيمة والممنهجة.

وإذا كان أداء المؤسسة الأمنية قد شهد في العقدين الماضيين طفرة نوعية، لا ينكرها إلا مغرض، في التخليق والتجويد والانضباط للقوانين، بل واستدماج جرعة حقوقية واضحة في سلوك المؤسسة تجاه المواطنين؛ فإن الجزء المسكوت عنه، والذي يتجنّب الجميع الخوض فيه، قد يكون المسؤول عن عدم حدوث تلك القطيعة التامة مع التمثلات السلبية السابقة.

أقصد هنا الأخطاء والانتهاكات الحديثة، أي التي جرت تزامنا مع تجربة الإنصاف والمصالحة، أو بعدها، وهو ما يتطلّب شجاعة إضافية في الطرح والنقاش ومن ثم التجاوز والطي النهائي.

في موضوع محاربة الإرهاب نفسه، لا يمكننا المشاركة بشكل جماعي في لعبة القفز فوق فترة الأخطاء المعروفة، والمؤكدة حتى على لسان الملك. ولابد لنا من القيام بالمصالحات الضرورية لتجاوز حالة الانسداد في الانتقال إلى مغرب جديد. صحيح أننا لم نعرف في “العهد الجديد” انتهاكات مماثلة لما جرى في عهد الحسن الثاني، وهو ما ينبغي أن يحفّز الجسم السياسي والمدني والحقوقي على مقاربة هذا الموضوع بطريقة إيجابية وبناءة، لا تبرّر أو تسوّغ أي تجاوز، لكنها تؤسس لمغرب جديد، وتغلق الباب نهائيات أمام أي تسرّب للشك أو الارتياب.

وإلى جانب هذا الجانب المسكوت عنه، دعوني أعبّر علانية عمّا اعتقدته دائما، من مسؤولية بعض الخطابات “التطبيلية” في الإساءة للجهد الذي تقوم به المؤسسات الأمنية.

فهذه الأخيرة هي خط المواجهة الأول مع أي تهديد أمني ولا جدال في ذلك. وفي حالتنا المغربية، أبانت الأجهزة الاستخباراتية عن علوّ كعب حقيقي في التصدي للظاهرة الإرهابية، وهو ما يشهد به الغريب قبل القريب؛ لكن بعض الخطابات التي تبدو أقرب إلى “البروباغندا” و”تقديس الفرد” (culte de personne)، تأتي في النهاية لتبث الشكوك وتصوّر العمل الأمني الذي يواجه الظاهرة الإرهابية بفعالية وحسم، كما لو أنه مجرّد استعراض، ومن هنا يمكن أن تولد السلوكات المشككة والمسفّهة.

دعونا نعيش فوق سفينة هذا الوطن كمواطنين ومؤسسات، يسند بعضنا بعضا، بالدعم والتحفيز كما النقد والمساءلة. ولا داعي لتصوير التهديد الإرهابي كما لو أنه جولة حاسمة من ضربات الترجيح بين فريقين متكافئين، نكتفي بتشجيع أحدهما ضد الآخر.

وأخطر ما كشفته الضربات الأمنية الأخيرة للخلايا الإرهابية، ويجعل الموضوع في قلب ذكرى 20 فبراير، هو سنّ المعقتلين المتّهمين بالانتماء إليها.

تأمّلوا معي أن الشخص الذي يمكن اعتباره بمثابة القائد المحتمل للخلية الأخيرة، والذي كان له اتصال مباشر بالقائد الداعشي المتمركز في منطقة الساحل والصحراء، من مواليد 2006. أي أنه بالكاد أكمل 18 سنة.

هل المؤسسة والأداء الأمنيان، هم المسؤول الوحيد عن فشل أو نجاح المشروع الإرهابي لهذا الشاب؟ أليس هذا المتّهم دليلا آخر على فشل القائمين على تدبير الشأن العام في إزالة التربة التي قيل لنا ذات يوم إنها كانت وراء خروج إرهابيين من حي سيدي مومن في الدار البيضاء؟

سيكون هناك دائما مجرمون وإرهابيون لا سبيل إلى مواجهتهم سوى بأداء أمني فعال واحترافي كما هو الحال مع مؤسساتنا الحالية؛ لكن شوطا كبيرا من الحرب ضد الإرهاب يجدي في ملعب التنمية.

وعوض أن تشحذ الحكومة وقادتها ألسنتهم لجلد قلة قليلة من المسؤولين والمؤسسات الدستورية التي تواصل الجهر بالحقائق، يجدر بنا أن نسارع على خلفية الخلايا الإرهابية الأخيرة، إلى فتح تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول الشباب من فئة “نيت” (NEET)، أي الذين لا يشتغلون، ليسوا بالمدرسة، ولا يتابعون أي تكوين.

لنتأمل كيف أن أكثر من مليون ونصف مليون شاب، من سن أصغر المعتقين في الخلية الأخيرة، الذين يتراوح عمرهم بين 15 و24 سنة، لا أفق لهم تحت سقف العقد الاجتماعي القائم، وبالتالي كيف ننتر منهم أن يؤمنوا به؟

ولنتأمّل كيف أن ثلاثة من المعتقلين في خلية حد السوالم شهر يناير الماضي، لا يتجاوز مستواهم الدراسي السادس ابتدائي؛ في حين أن الرابع منهم بالكاد وصل مرحلة البكالوريا.

ولنتأمل كيف تضرب البطالة أطنابها في صفوف هذه الفئة، وتتحاوز عتبة ال35 في المئة وفقا لأرقام المندوبية السامية للتخطيط.

إن الإرهاب يحارب بالأمن والقضاء والسجن نعم، لكنّه يحارب أيضا بالتنمية والعدالة الاجتماعية وتعزيز المشاركة المواطنة وفتح آفاق التطوّر والتغيير بالطرق السلمية والمدنية أمام المجتمع.

وذكرى 20 فبراير التي تحلّ اليوم، كانت محطة فارقة في التاريخ السياسي المغربي المعاصر، حيث خرج آلاف الشباب إلى الشوارع مطالبين بالحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة، وإصلاحات سياسية عميقة.

ومع ذلك، وبعد أربعة عشر عاما على اندلاع هذه الاحتجاجات، لا تزال الهوة بين الدولة والشباب تتّسع، بل إن جزءا من الجيل الذي نادى بالإصلاح، أو وُلد في سياق المطالبة به، وجد نفسه، لأسباب متعددة، في صفوف خلايا إرهابية خطيرة، كما تكشفه الاعتقالات المتوالية للمصالح الأمنية المغربية.

فكيف وصلنا إلى هذه النقطة؟
وهل يمكن اعتبار الفشل في الاستجابة لمطالب 20 فبراير أحد العوامل التي تدفع الشباب إلى التطرف؟

إن الفكر والممارسة الإرهابيان لا يستحقان إلا الشجب والاستنكار والمحاربة بكل الوسائل الممكنة؛ لكن ما يجمع بين حركة 20 فبراير والخلايا الإرهابية المفككة هو أنهما تعبير عن أزمة اجتماعية عميقة.

وبينما اختار شباب 2011 النزول السلمي إلى الشوارع للمطالبة بالإصلاح، فإن شبابا آخر وجد نفسه في مسارات أخرى أكثر تطرفا وخطورة، لأسباب مشابهة:

• انسداد الأفق السياسي وتراج النقاش العمومي حول الإصلاحات، مما يجعل الشباب يشعر بالعزلة السياسي؛

• غياب بدائل اقتصادية حيث لم توفر السياسات العمومية حلولا حقيقية لمشاكل البطالة والتهميش، مما يسمح للجماعات المتطرفة بتقديم نفسها كـ”بديل” يمنح هؤلاء الشباب هدفا و”مشروعا”؛

• الدعاية الرقمية والشبكات الاجتماعية التي كانت وسيلة نضالية في يد شباب 20 فبراير، تتحوّل اليوم إلى سلاح للدعاية السيبرانية في يد التنظيمات الإرهابية…

باختصار، هناك غياب تام لمشروع سياسي شامل (لن يعوّضه تنظيم أكثر من مونديال)، يصبح معه الشباب المغربي عُرضة لمشاريع متطرفة، سواء داخل البلاد أو خارجها، ويكفي أن أكثر من 130 مغربيا انتقلوا للقتال في منطقة الساحل والصحراء منذ 2022 حسب المعطيات الأمنية الرسمية.

ذكرى 20 فبراير مجيدة، وكل عام وشباب المغرب على أمل!