الإدارة.. العصب المتكلس للدولة المغربية في زمن الرهانات الكبرى

أن تقصد إدارة عمومية من أجل ورقة بسيطة، فتجد نفسك تائهًا بين مكتب ومقهى، وبين موظف يتلكأ في عمله ويتفنن في تأجيل توقيعك، في مشهد سريالي، مشهد لا يليق بمغرب يُقدِّم نفسه على أنه ورش إصلاحي مفتوح، ويستعد لرهانات كبرى في مقدمتها تنظيم كأس العالم لكرة القدم سنة 2030. المواطن المغربي يقضي ساعتين أو أكثر من عمره من أجل خدمة إدارية لا تتطلب سوى دقائق، بل ” كيهز الهم ” كما نقول في عاميتنا لأجل ذلك، لدرجة هناك نكتة تقول ” إذا شاهدت كراسي المقاطعة (الملحقة الإدارية) فاعلم ان يومك قد ضاع).
المواطن المغربي يصطدم يوميا ببنية متخشبة، بطيئة ومعقدة، يغلب عليها منطق الرشوة والزبونية أكثر مما يحكمها منطق المرفق العام. لدرجة جعلته يبتكر الكثير من أساليب التحايل، منها ان كل مواطن يقحم نفسه مع رقم ترتيبي لمواطن اخر بغية عدم الاستمرار في الانتظار، وهو طبعا تحايل على باقي المرتفقين، و كل ذلك لان الإدارة التي تم بناءها و تجهيزها بستة شبابيك تشتغل بشباك واحد أو أحيان شباك و نصف و ببطء شديد .
المفارقة أن هذا الوضع قائم رغم سنوات من الحديث عن الرقمنة، وعن الإدارة الحديثة التي يُفترض أن تجعل علاقة المواطن بالدولة أكثر يسرًا. ومع ذلك، ما زالت الملحقات الإدارية تحتفظ بخصوصيتها القديمة، وكأنها كيانات لا ينالها التغيير، فتظل الثقة معلّقة على توقيع “المقدم” أكثر من التوقيع الإلكتروني، وعلى الورقة والقلم أكثر من البريد الإلكتروني، وعلى الختم اليدوي أكثر من النظام المعلوماتي. وكأن الإدارة المغربية تعيش خارج زمنها، في عالم ثالثي يُعاكس كل الشعارات المرفوعة.
إن الرقمنة في السياق الدولي لم تعد مجرد إجراء لتسهيل الحياة اليومية للمواطنين، بل أصبحت معيارًا لقياس مدى تقدم الدول. تجارب رائدة مثل إستونيا أو رواندا أبانت أن الاستثمار في الرقمنة ليس ترفًا، بل هو مدخل لتقليص الفساد، وتحرير الطاقات، وجعل الاقتصاد أكثر جاذبية. دول مثل هذه استطاعت أن تبني سمعتها الدولية على كفاءة إدارتها ورشاقتها، بينما ما زال المواطن المغربي يثق أكثر في ختم المقدم من ثقة في منصة إلكترونية رسمية.
المعضلة هنا ليست تقنية فحسب، بل سياسية بالأساس. الإدارة هي عصب الدولة، وكل خلل فيها يعني خللًا في علاقة الدولة بمواطنيها. حين يجد المواطن نفسه مرغمًا على دفع رشوة صغيرة، أو على الانتظار لساعات من أجل خدمة بسيطة، فإن ثقته في المؤسسات تتآكل، وحين تتآكل الثقة تُصبح كل مشاريع الإصلاح عرضة للفشل، في مقدمتها المشاريع السياسية و بالتالي العزوف عن المشاركة في الانتخابات، و ما يترتب عن ذلك طبعا من تابعات، وهنا يكمن جزء من الخطورة اما الجزء الثاني خارجي، فالدولة التي تطمح إلى أن تكون واجهة لإفريقيا في تنظيم كأس العالم، وتقديم نفسها كشريك استراتيجي في الساحة الدولية، لا يمكن أن تسمح لإدارتها بأن تبقى وجهًا بيروقراطيًا متكلسًا يعكس صورة المغرب المتأخر بدل المغرب الطامح.
إن التحدي المطروح اليوم على المغرب هو الانتقال من خطاب الإصلاح إلى ممارسته الفعلية. الرقمنة الحقيقية – لا الشكلية – قادرة على أن تضع حدًا للرشوة الصغيرة، وأن تجعل من الإدارة فضاءً لخدمة المواطن بدل معاقبته. لكنها تتطلب إرادة سياسية تضع المواطن في صلب أولوياتها، وتجعل من الإدارة رافعة للتنمية بدل أن تكون عقبة أمامها.
من هنا، فإن رهان كأس العالم ليس رياضيًا فحسب، بل هو رهان إداري أيضًا. كيف يمكن لدولة أن تنظم حدثًا بهذا الحجم وتُبهر العالم إذا كان مواطنها ما زال يضيع نصف يومه من أجل ورقة بسيطة؟ وكيف يمكن أن نقنع المستثمر الأجنبي بجاذبية المغرب، إذا كان مجرد الحصول على ترخيص أو رخصة يتطلب مسارًا شاقًا يفتح الباب أمام الرشوة والمحسوبية؟
إن مواجهة هذا التحدي لا يمكن أن تتم بالخطابات ولا بالشعارات، بل بقرارات عملية جريئة تُعيد ترتيب البيت الإداري من الداخل. إصلاح الإدارة لم يعد مجرد مطلب من مطالب النخب، بل صار شرطًا أساسيًا لأي إقلاع اقتصادي واجتماعي وسياسي. فالدولة الحديثة تُقاس بكفاءة إدارتها، ومن لا يُدرك هذه الحقيقة، يُجازف بمستقبل بلاده كله.
الإدارة، إذن، ليست مجرد تفاصيل يومية تُزعج المواطن، بل هي مرآة الدولة نفسها، وتخلفها يعني بالضرورة تخلف الدولة، وكل حديث عن الإصلاح أو التنمية أو التقدم سيظل ناقصًا ما لم يلامس هذا العصب الحيوي، وما لم يُحوّل الإدارة المغربية من رمز للبطء والفساد إلى رمز للفعالية والشفافية. هذا هو التحدي الحقيقي، وهذا هو الرهان الذي لا مفر من كسبه إذا أراد المغرب أن يكون فعلًا في مستوى طموحاته.
خصوصًا وأن 2030 ستجلب إلى المغرب ملايين الزوار، وصحفيين وكتّاب رحلات وقنوات عالمية، لن يكتفوا بتغطية الملاعب والمنشآت، بل سينقلون أيضًا تفاصيل الحياة اليومية، وقد تتحول مشاهد البيروقراطية والانتظار والرشوة الصغيرة إلى صور تبث على شاشات العالم، تختزل صورة المغرب في لحظة كان يفترض أن تكون لحظة تألقه.