الأحزاب السياسية وصناعة الوهم.. معضلة النظام المغربي الراهنة

يذهب بعضهم إلى اعتبار أن دور الأحزاب السياسية في النظام المغربي هو دور ثانوي، لا يُستدعى إلا لتزيين الواجهة، إذ إن القرار الحقيقي للدولة لا يُصنع في المؤسسات التمثيلية، من برلمان وحكومة، حيث يُفترض أن تمارس الأحزاب صلاحياتها التنفيذية والتشريعية باعتبارها ممثِّلة للشعب عبر اقتراع حر ونزيه.
وهذا القول، وإن كان صحيحًا من زاوية صلاحيات الحكم، فإنه لا يعبّر بدقة عن أهمية الأحزاب في نظام سياسي مثل النظام المغربي. فصحيح أن دورها في ممارسة السلطة ثانوي، لكن دورها في هندسة البنية التي يقوم عليها النظام ليس كذلك على الإطلاق.
بعبارة أخرى: لا قيمة للأحزاب في مراكز القرار الفعلية، لكنها تبقى أداة لا غنى عنها لضمان استمرار هذه المراكز.
وقد يبدو الأمر متناقضًا للوهلة الأولى، غير أن هذا التناقض يزول إذا تعمّق النظر في طبيعة النظام السياسي وحاجته المستمرة إلى صناعة الوهم.
يشير علماء السياسة إلى أن بقاء أي نظام سياسي يتوقف على توافر قدر من المشروعية، أي قبول المحكومين بالنظام السياسي القائم باعتباره سلطة حاكمة تُدير شؤونهم. وقد بيّن ماكس فيبر أن لهذا القبول أسسًا متعددة تختلف باختلاف طبيعة السلطة.
ويخطئ من يظن أن الأنظمة غير الديمقراطية في غنى عن هذه المشروعية لمجرد أنها تحكم بالقوة، وأن قبول الناس أو رفضهم لا يغيّر شيئًا من معادلة الحكم. فالتجربة التاريخية تُظهر أن القمع وحده لا يكفل الاستقرار على المدى الطويل، وأن شعبًا ساخطًا لا يمكن إخضاعه بالقوة إلى ما لا نهاية، وأن أنظمة عديدة انهارت أمام غضب شعوبها رغم امتلاكها لأقوى الأجهزة القمعية.
تدرك الأنظمة السلطوية المتمرسة هذه الحقيقة، لذلك لا تكتفي بالقمع المباشر، بل تدعمه بوسائل أخرى لاتقاء سخط شعوبها. ومن أبرز هذه الوسائل ما يمكن تسميته بـ”صناعة الوهم”: أي قدرة النظام الكبيرة على مخادعة شعبه، وإبقاء وعيه مشوشًا بحيث يستعصي عليه تحديد المسؤولين الفعليين عن الأوضاع. وهي عملية تقوم على خلط الأوراق، وتخدير الوعي العام، حتى يصبح الواضح ملتبسًا، بل ويثير استغراب المراقب الخارجي كيف يعجز الناس عن التمييز. وهذا ليس بالأمر الجديد، فقد آمنت شعوب عبر التاريخ بأساطير عجيبة، مثل ألوهية حكامها. إنه مزيج محكم من الترهيب السياسي، والتمجيد المتواصل، والتضليل المنهجي، ينتج وعيا مكبلا بالخوف، مهيأ لتصديق سرديات مضللة، وعاجز عن التمييز بين الصالح والطالح.
في هذا السياق، تتحول الأحزاب السياسية داخل هذه الأنظمة من آلية ديمقراطية لتفعيل مبدأ السيادة الشعبية إلى أداة مركزية ضمن هندسة السلطة لصناعة الوهم وتكريس مشروعيتها. فهي توهم المواطنين بأنهم يُساسون وفق قواعد سياسية مماثلة للديمقراطيات التمثيلية، وأن النخبة الحاكمة لا تسعى للاستئثار بالسلطة، بل لتقاسمها مع الشعب عبر ممثليه. كما تُستخدم لصرف الانتباه عن المسؤولين الحقيقيين عن أوضاع البلاد، عبر تحميل الأحزاب وحدها مسؤولية الفشل، رغم أن دورها في الحكم يظل هامشيا. أما مواقع صناعة القرار حيث تُرسم السياسات الكبرى، فليست لها فيها كلمة، وإن حضرت فلتنفّذ وتطيع.
لنقف عند محطتين بارزتين تجلّى فيهما توظيف النظام المغربي للأحزاب ذات الرصيد الشعبي في خدمة استراتيجيته السلطوية، خاصة عند الحاجة إلى تجديد الثقة العامة أو امتصاص موجات الغضب الشعبي.
- محطة “التناوب الديمقراطي” 1998:
بعد ما سُمِّي بـ”سنوات الرصاص” وما رافقها من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، دخل المغرب مرحلة انتقالية مع تولي ملك شاب الحكم، في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة وتراجع حاد في الثقة السياسية. احتاج النظام آنذاك إلى تجديد مشروعيته، فاستعان بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لما كان يتمتع به من رصيد نضالي وتاريخ معارض يمنحه مصداقية واسعة لدى فئات عريضة من المغاربة. انخرط الحزب في ما سُمي بـ”العهد الجديد” و”الانفتاح الديمقراطي”، مُسوّقًا صورة نظام جاد في الإصلاح السياسي. لكن هذا “القوس الديمقراطي” أُغلق سريعًا مع تعيين التكنوقراطي إدريس جطو وزيرًا أول بدل عبد الرحمن اليوسفي سنة 2002، في رسالة سياسية واضحة حول حدود الانفتاح المسموح به. وقد كان من الصعب إقناع المغاربة بسردية الإصلاح آنذاك لولا الثقة التي حظي بها الاتحاد الاشتراكي قبل دخوله الحكومة، وهي الثقة التي تآكلت بشكل كبير بعد التجربة.
2. موجة الربيع العربي الأولى 2011:
مع اندلاع احتجاجات 20 فبراير 2011، وجد النظام نفسه أمام موجة غضب شعبية واسعة، في سياق إقليمي أطاح بأنظمة عربية وأربك أخرى. ولتهدئة الوضع، لجأ النظام إلى الحزب الإسلامي “حزب العدالة والتنمية” الذي كان يتمتع آنذاك برصيد شعبي معتبر، خاصة في الطبقات الوسطى. سمح النظام للحزب بالفوز في الانتخابات وتشكيل الحكومة، وهو ما منح شعاره الانتخابي “إسقاط الفساد والاستبداد” مصداقية مبدئية. لكن سرعان ما تبين أن قيادة الحكومة لم تكن سوى مشاركة في هندسة مشهد سلطوي منضبط، يتيح للنظام إعادة إنتاج نفسه. وكما حدث مع الاتحاد الاشتراكي، استُهلك الرصيد الشعبي للعدالة والتنمية في تسويق وهم الإصلاح.
ما أريد الوصول إليه، وما أراه يمثل المأزق الراهن للنظام المغربي، أن المحطتين التاريخيتين تكشفان حاجة النظام، وخاصة في أوقات الأزمات، إلى أحزاب ذات مصداقية قوية لتسويق صورته وتجديد مشروعيته. غير أن الواقع الحزبي اليوم يضعه أمام مأزق حقيقي: فقد استُهلكت شعبية الأحزاب التي كانت تملك رصيدًا شعبيًا معتبرًا، ولم يعد أيٌّ منها قادرًا على لعب دور “الوسيط الموثوق” القادر على إقناع المواطنين بجدية الإصلاح متى استدعت الحاجة ذلك. وما تبقى من رصيد لحزب العدالة والتنمية لا يكفي لقيادة عملية تمويه كبرى كما حدث عام 1998 أو 2011، خاصة في ظل سياق اقتصادي واجتماعي خانق.
وهكذا يجد النظام نفسه أمام معضلة بنيوية: كيف يستمر في صناعة الوهم ويجدد مشروعيته في غياب أحد أدواته التقليدية الأساسية؟