احتجاج من أجل روح المغرب

نعيش حاليا واحدة من تلك اللحظات القاسية، حين يحاول البعض تحويل الوطنية إلى صمت، والتاريخ إلى خنوع.
في كل مرة يخرج فيها المغاربة إلى الشارع، يرفعون صوتهم من أجل فلسطين وضد الإبادة والتقتيل، ويرفعون رؤوسهم في وجه التطبيع مع رمز الطغيان، تنبعث من بعض الزوايا المعتمة خطابات مكرورة، تدّعي أن هذا الحراك الشعبي يُضرّ بمصالح البلاد، ويشوّش على صورتها، بل ويهدّد استقرارها.
بل إن البعض بات يزايد على المغاربة بتقديم أساطير لا يصدّقها حتى الأطفال، حول مؤامرات وأجندات، كأنما دعم فلسطين تهمة، ورفض المساهمة في التقتيل جريمة، والتظاهر من أجل العدالة والحرية عبث لا طائل منه.
لكن الحقيقة، كما يُمكن أن نقرأها في التاريخ، وفي السياسة، وحتى في المنطق السليم، تقول عكس ذلك تماما.
ما من احتجاج شعبي وطني حرّ إلا وكان، في لحظة من اللحظات، ذخرا للدولة لا عبئا عليها. وما من موقف صادق نابع من ضمير الناس إلا وكان ورقة قوة لا مصدر تهديد.
لا أعتقد الملك الراحل الحسن الثاني إلا كان سعيدا وهو يتخذ ما قدّره مناسبا لمصلحة البلاد العليا من موقف في حرب العراق بعد غزوه الكويت، بينما كان الشارع يتظاهر مدافعا عن موقف معاكس
من يتابع المشهد المغربي في الأشهر الأخيرة، يدرك أن خروج الناس في مختلف المدن، ليس تعبيرا عن نزق جماهيري أو عداء للدولة، بل هو تعبير شعبي عفوي عن التقاء وجداني مع فلسطين، ورفض قطعي للانخراط في مسار تطبيعي لا يحظى بشرعية شعبية، وتجسيد لصورة الأمة الحية والمتفاعلة مع محيطها ومع زمانها.
وبدل أن يُقرأ هذا المشهد باعتباره مصدر توتر، يفترض أن يُفهم كرافعة سياسية للمغرب. لأن الأنظمة، حتى في أكثر البلدان ديمقراطية أو براغماتية، تُقوّي مواقفها الخارجية حين تدعمها شعوبها، سواء بالتأييد أو بالاحتجاج.
وعندما يظهر الشارع المغربي بهذا الوضوح والعمق في مناصرته لفلسطين، فإن الدولة المغربية تحوز، موضوعيا، ورقة ضغط تفاوضية إضافية، سواء في مواجهة الابتزازات الخارجية، أو حين تُطالب بتوازن أكبر في علاقاتها الدولية.
بمعنى أوضح: الاحتجاج في هذا السياق لا يضعف الدولة، كما يريد أن يقنعنا بعض المرجفين، بل يمنحها مصداقية وقوة تفاوض.
يحاول هذا البعض، في سياق هذا الخطاب التبخيسي، الإيحاء بأن على المغرب أن ينخرط في موازين القوى الإقليمية كما هي، وأن يقبل بالتطبيع الانبطاحي باعتباره “الواقع”، وأن يُسقِط القضية الفلسطينية من اعتباره لأنها أصبحت “كلفة زائدة”.
ينسى هؤلاء، أو يتناسون، أن المغرب، ومنذ استقلاله، لم يكن يوما تابعا في سياساته الخارجية، حتى في أحلك اللحظات، سواء للشرق أو للغرب.
يكفي أن نتذكر لحظات التوتر والتصعيد القريبة مع الولايات المتحدة الأمريكية نفسها حين حاولت الابتزاز بورقة حقوق الانسان، وكيف طردنا المكوّن السياسي لبعثة المينورسو، الأداة الأممية التي تعتبر واشنطن مموّلها وراعيها الأول.
حتى في عز حرب الصحراء، حين كان المغرب يقاتل على جبهات متعددة، لم يمنع ذلك الملك الراحل الحسن الثاني من أن يستضيف قمما عربية، وأن يحتضن منظمة التحرير الفلسطينية، وأن يترافع في الأمم المتحدة باسم الحق الفلسطيني. وعندما قام هؤلاء بمواقف طائشة، لم يتردّد في مهاجمتهم، لكنه لم يصبح عدوّا لهم، وسرعان ما عادت المياه إلى مجاريها معهم.
أكثر من ذلك، لم يكن الحسن الثاني يخفي استقلالية موقفه عن أكبر الداعمين له ماليا وعسكريا، بمن فيهم أشقاء عرب.
لم يبع المغرب قراره السياسي مقابل الدعم، ولم يخضع حين كانت الضغوط أشدّ وأكبر.
فكيف يُطلب اليوم من المغاربة أن يصمتوا، وأن يسايروا مسارا تطبيعيا مذلّا يُفرض باسم الواقعية، بينما بلادهم تملك تاريخا من الاستقلالية والسيادة والمبادرة؟
كيف يُراد لهم أن يُبلَعوا داخل محور سياسي إقليمي لا يشبههم، لا في ثقافته ولا في أولوياته، تحت ذريعة الانفتاح أو المصالح العليا؟
في اللحظات المعقدة مثل هذه، لا تحتاج الدولة إلى الولاء الأعمى، بل إلى رأي عام يقظ، قادر على حمل المواقف الثقيلة، والصعبة، والمركّبة، بل المعقّدة، وعلى حماية القرار السيادي من التورّط في مشاريع لا تخدم مصلحة البلاد.
الشعب المغربي، في وقوفه الدائم مع فلسطين، لا يوجّه صفعة للدولة، بل يمدّ لها شبكة أمان أخلاقية واستراتيجية، لتبقى على خط الاعتدال التاريخي الذي ميّز الدبلوماسية المغربية منذ عقود.
لا أحد يطالب بقطيعة فوضوية، ولا بخروج عن المؤسسات، لكن من واجب المواطنين أن يرفضوا أن يُزجّ باسمهم في اختيارات لا تعبّر عنهم. ومن واجبهم، أكثر، أن يحموا التوازن الدقيق بين مصالح الدولة ومبادئ الأمة.
الخطاب الذي يروّج بأن “فلسطين ليست قضيتنا” ليس جديدا علينا. لكنه يعود هذه الأيام بصيغ أشدّ جرأة، يُقدَّم فيه التطبيع كأمر واقع، وفلسطين كعبء أخلاقي على حساب التنمية والمصلحة الوطنية العليا.
لكن هذا الخطاب يتجاهل حقيقة تاريخية وسياسية: أن فلسطين كانت دوما بوابة الوعي الشعبي المغربي، ومصدر شرعية رمزية كبرى لكل من حملها. وهي القضية الأكثر تأثيرا في المنطقة، بل هي التي ستهيكل مستقبلها ومصيرها، ومن الحتمي، حتى إذا استبعدنا الضمير الإنساني والرابط الحضاري واكتفينا بالمنطق البراغماتي، أن نحتفظ بحضور مؤثر في هذه القضية، وتعلمون التأثير الوحيد الممكن: دعم الفلسطينيين.
وعندما يتظاهر المغاربة، فهم لا يرفعون فقط علم فلسطين، بل يرفعون صورتهم الخاصة عن أنفسهم: أمة لا تقبل المهانة، وشعب لم يكن يوما تابعا ولا قبل لدولته خضوعا أو استباحة..
من يريد إسكات هذا الصوت، إنما يريد إسكات الذاكرة، وتفكيك العلاقة بين الشعب وتاريخه، وبين السياسة والمبدأ.
إن الوطن لا يُقوَّى بالصمت، وسيادته لا تُحمى بالانبطاح، والتاريخ لا يُكتب في حصة إملاء داخل فصل مدرسي.
الذي خرج إلى الشارع من أجل فلسطين لا يهدد المغرب، بل يحرس وجهه الأخلاقي.
والذي يرفض التطبيع لا يُضعف الدبلوماسية، بل يمدّها بعمق اجتماعي وسياسي لا تملكه كثير من العواصم المطبّعة.
ومن يحاول أن يقطع هذا الخيط، لا يفهم روح المغرب.