story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

احتجاجات “جيل Z” تكشف فشل الدولة الاجتماعية.. من أقبر النموذج التنموي؟

ص ص

مهما تكن نتائج احتجاجات جيل Z، ومستوى تفاعل الدولة مع مطالبها، خصوصا تلك التي تضمنتها وثيقة “من أجل تفعيل العقد الدستوري”، فإن تلك الاحتجاجات بقدر ما تعكس إحباطا واسعا في صفوف الأجيال الصاعدة، نتيجة خيبات متراكمة جراء ضعف الاستجابة لتطلعات ووعود لم تتحقق في قطاعات التشغيل والصحة والحماية الاجتماعية وإصلاح التعليم، تطرح، في حد ذاتها، أسئلة عميقة حول جدية ومصداقية الشعارات التي رفعتها الدولة في السنوات الأخيرة من قبيل “الدولة الاجتماعية”، أو “الدولة القوية والفعالة”.

إن قراءة متفحصة للوثيقة التي أصدرها شباب “جيل Z”، وللشعارات والمطالب المرفوعة، تؤكد بالفعل ما سبق لتقارير رسمية أن خلصت إليه، يتعلق الأمر بوجود فجوة عميقة ما فتئت تتسع، خصوصا في السنوات الخمس الأخيرة، بين الآمال والطموحات والقوانين المجردة وبين الواقع الحقيقي للمواطنين في الجبال والقرى ومناطق الهامش.

فجوة تعود بحسب وثيقة الشباب إلى سوء التدبير، ومحدودية فعالية السياسات العمومية، واستشراء الفساد، وعدم الربط بين المسؤولية والمحاسبة، كما تعود بحسب قراءات أخرى إلى “الثقة الزائدة” لدى الدولة في نفسها، بحيث لم تعد تنصت للهامش، ولم تعد تأخذ المطالب الاحتجاجية، سواء الفئوية أو المجالية، التي ميّزت فترة حكومة أخنوش، بالجدية اللازمة.

تكشف الاحتجاجات إذن عن زيف شعار الدولة الاجتماعية، وهي خلاصة تجد مبررها في تقارير رسمية وملاحظات خبراء وسياسيين، ممن نبهوا مبكرا الدولة إلى أن سياسات الحكومة القائمة، تعطي الأولوية للقطاع الخاص على حساب القطاع العام، ولقطاعات بعينها مثل الرياضة والطاقة والهيدروجين وما يرتبط بها من بنيات تحتية على حساب القطاعات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم والتشغيل، ناهيك عن إهمال للعالم القروي وللمناطق الجبلية التي تعاني أكثر جراء الجفاف وارتفاع الأسعار ونسبة البطالة.

ومن نتائج ذلك، بروز مفارقات بالجملة، ففي قطاع الصحة يهيمن القطاع الخاص مستفيدا من الموارد البشرية للدولة، بينما يتدهور القطاع العمومي أكثر فأكثر، خصوصا في المستشفيات الإقليمية والوحدات الصحية الأدنى منها.

وفي الوقت الذي تفتخر الحكومة بإنجاز أكبر ملعب في افريقيا في ظرف 14 شهرا بملايين الدولارات، تفشل في إنجاز طريق حيوي يربط ساكنة الشاون بمدينة تطوان منذ 13 سنة، وتتأخر منذ أربع سنوات في إنجاز طريق سريع بين فاس وتاونات، أو تفشل في ربط ساكنة الجماعات القروية بالماء كما هو حال تيسة وبوعروس في إقليم تاونات كذلك.

هذه المفارقة في الأداء تعود إلى خلل في الأولويات يؤدي إلى سوء توزيع في الموارد المالية المتوفرة لدى الحكومة، بحيث تخصص أموالا باهضة لمشاريع بعينها مثل البنيات التحتية لقطاع الرياضة، وتتحجج بغياب الأموال عندما يتعلق الأمر بتسريع إنجاز مستشفيات إقليمية تليق بمغرب المونديال كذلك.

وسواء كان ذلك نابعا من إرادة الحكومة واختياراتها، أو بضغط من مؤسسات مالية دولية، أو لوبيات القطاع الخاص، فإن إهمال الحكومة للاحتجاجات الصاعدة من القرى والجبال، سواء في إقليم الحوز، أو آيت بوكماز أو بوعروس أو جماعات أخرى، يعود إلى بالأساس إلى “كذبة” الدولة الاجتماعية، كيف ذلك؟

إهمال النموذج التنموي

كان يفترض أن تعتمد حكومة أخنوش، بعد أن شرعت في عملها بعد انتخابات أثارت لغطا واسعا حول نزاهتها، وثيقة النموذج التنموي الجديد مرجعا لبرنامجها الحكومي وفي خطابها السياسي. لكن الملاحظ أنها تجاهلته عن قصد، إلى أن تم نسيانه تماما في الخطاب السياسي للحكومة.

الوثيقة المذكورة تتضمن أجوبة مسبقة عن المطالب التي رفعها جيل Z في احتجاجاته الأخيرة، خصوصا وأنها نبهت مبكرا إلى وجود شعور وإحساس عارم لدى المواطنين بـ”ضعف الحماية الاجتماعية والاقتصادية والقضائية” من لدن الدولة.

خلال إعداد الوثيقة، لجأت اللجنة التي عينها الملك محمد السادس في دجنبر 2019 برئاسة شكيب بنموسى ورفعت عملها إلى الملك في ماي 2021 إلى مقاربة تشاركية من خلال فتح فضاءات للمشاورة، سواء على شبكات التواصل الاجتماعي، أو عبر زيارات ميدانية، ناهيك عن جلسات للإنصات والاستماع، كما توصلت بمساهمات مكتوبة تجاوزت 6 آلاف مساهمة.

وقد خلصت اللجنة إلى تشخيص واف لوضعية التنمية، كما يتصورها المواطنون والفاعلون، وخلصت إلى وجود مكتسبات تمت الإشادة بها من لدن المتحدثين، لكنها “أبرزت مخاوف عدة فئات بشأن المستقبل”، نابعة من الإحساس بـ”تعطل آليات الارتقاء الاجتماعي، وتلاشي الثقة في قدرة المؤسسات العمومية على السهر على الصالح العام”.

من المثير أن القضايا التي يرفعها المحتجون اليوم في الشارع، والتي تؤكد على أزمة الثقة بين الشباب والمؤسسات، قد وقع التشديد عليها في حوارات المواطنين مع لجنة النموذج التنموي، وخصوصا نقطتين أساسيتين: الأولى، ضعف الإدماج الذي يتسم به النموذج التنموي القديم، والمتمثل في تعميق الفوارق الاجتماعية والمجالية، ومخاطر التراجع الاجتماعي للطبقة الوسطى.

وتتعلق النقطة الثانية بأزمة الثقة تجاه الفعل العمومي في سياق تردي جودة الخدمات العمومية، وضعف الحس الأخلاقي، وتراجع قيم النزاهة على العموم لدى المكلفين بتدبير الشأن العام.

وبخصوص أزمة الثقة، أوضحت الوثيقة أن “ضعف الثقة إزاء النخب السياسية والاقتصادية والفئات الاجتماعية الميسورة، يُنظر إليها من زاوية استفادتها من امتيازات غير مشروعة، وأنها غير حريصة على المصلحة العامة”. وأثار المواطنون الذين حاورتهم لجنة النموذج التنموي “غياب آليات التقنين الفعلي للأنشطة الاقتصادية، وكذا انعدام حد أدنى من الحماية الاجتماعية للجميع”.

تسجل وثيقة النموذج التنموي أن “آراء المشاركين تتطابق بشأن التقدم الحاصل والإنجازات الهامة للبلاد، والتي لم تمنع، رغم ذلك، من تعميق الفوارق وتدهور جودة الخدمات العمومية”.

ويضيف التقرير موضحا أن “التوزيع غير المتكافئ للمجهود الإنمائي عبر التراب الوطني.. يغذي الشعور بوجود تعامل متباين مع الساكنة ومع المجالات الترابية، ويغذي الفجوة بين “من يتوفرون على كل شيء، ومن لا يملكون أي شيء”. وتبرز أن الفجوة تتمثل في “التهميش الذي يطال بعض المناطق، وفي إقصاء العالم القروي، وإضعاف الطبقة الوسطى، والإحساس السائد بركود الحركية الاجتماعية”، وهي المآخذ الأكثر ورودا في المشاورات المواطنة”.

ويؤكد أن “من خلال جلسات الإنصات، توجد قناعة مشتركة لدى المواطنين مفادها أن الإدارة والقطاعات العمومية والمرافق العامة، خاصة في مجالات الترابية والتكوين والصحة، لم تعد تؤدي وظيفتها كآلية للإدماج، مولدة إحباطات عميقة ومغذية لأجواء أزمة الثقة في الفعل العمومي وإزاء الدولة”.

أوصت وثيقة النموذج بخيارات استراتيجية تتمثل أساسا في ابتداع اقتصاد منتج ومتنوع يخلق القيمة ومناصب شغل ذات جودة، والارتقاء بالرأسمال البشر من خلال تحقيق نهضة تربوية وضمان حقوق الصحة والتكوين، وتعزيز فرص إدماج الجميع وتقوية الرابط الاجتماعي، والعمل على خلق مجالات ترابية مستدامة وقادرة على التكيف باعتبارها فضاءات لترسيخ التنمية.

كان من المفترض أن تشكل خيارات هذا النموذج التنموي خارطة طريق للحكومة التي جاءت بعد انتخابات 8 شتنبر 2021، برئاسة عزيز أخنوش، لكن يلاحظ أن الأخير تجاهل وثيقة النموذج التنموي الجديد. كما كان لافتا تعيين رئيس اللجنة وزيرا للتربية والتعليم، بدل تعيينه في موقع استراتيجي أهم، يستطيع من خلاله تتبع تنفيذ النموذج، الذي أصبح نسيا منسيا.

صحيح أن وثيقة النموذج التنموي الجديد قد وجهت إليها انتقادات قوية، من قبيل أنها لم تقدم تحليلا للواقع الفعلي للاقتصاد المغربي، ولم تتوقف عند الأسباب التي أدت إلى إخفاق النموذج التنموي القديم، وبالتالي فوّتت الفرصة على الفاعلين والنخب والمجتمع لمعرفة حقائق الواقع الاقتصادي والآليات التي يشتغل بواسطتها والتي باتت تعوق تقدمه مثل الريع والفساد والزبونية، أو الاحتكار والهيمنة من قبل عائلات ولوبيات معينة.

صحيح كذلك أن النموذج التنموي الجديد لم يتطرق إلى السبل التي يمكن من خلالها توفير الموارد المالية لتحقيق الأهداف التي حدّدها. لكنه يظل وثيقة هامة لعدة اعتبارات، منها أنه أتى بعد أن بلغت عدة مخططات قطاعية نهايتها بين الفترة (2020-2024)، وأنه وضع خارطة طريقة للأولويات الكبرى خلال العقد المقبل، وعلى رأسها النهوض القطاعات الاجتماعية.

لكن اللافت أن أخنوش لم يعتمد وثيقة النموذج التنموي الجديد برنامجا لحكومته، ولم يتبن أيا من الأهداف الكبرى للنموذج، وبالتالي لم يعيّن المساهمين في إعداد النموذج التنموي الجديد، بمن فيهم الاقتصاديين، في مناصب حكومية، باستثناء رئيس اللجنة، شكيب بنموسى، الذين عيّن في أصعب وزارة وهي التربية الوطنية. لقد اختار أخنوش رفع شعار الدولة الاجتماعية، دون الاعتماد على النموذج التنموي الجديد، ليتبين مع الوقت أن الشعار نفسه فارغ المضمون.

كذبة الدولة الاجتماعية

تبلور خطاب “الدولة الاجتماعية” على مراحل طيلة العقدين الماضيين. ويؤرخ بعض الباحثين لبروز الإشكالية الاجتماعية في الخطاب الرسمي للدولة بحادثة أنفكو سنة 2007، التي دفعت الحكومات المتعاقبة إلى تبني بعض الإجراءات الاجتماعية الموجهة لفئات بعينها مثل النساء والتلاميذ.

وفي الذكرى 15 لتوليه الحكم، أثار الملك محمد السادس في خطاب عيد العرش إشكالية توزيع الثروة، مؤكدا أنه في الوقت الذي سجل المغرب تقدما في مؤشر قياس الثروة على الصعيد الافريقي، إلا أن “الواقع يؤكد أن هذه الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين. ذلك أنني ألاحظ، خلال جولاتي التفقدية، بعض مظاهر الفقر والهشاشة، وحدة الفوارق الاجتماعية بين المغاربة”.

وفي سنة 2018، أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي تقريرا حول واقع الحماية الاجتماعية، أبرز فيه أن نحو 2.4 مليون شخص يعملون في القطاع غير المنظم لا يستفيدون من التعويضات العائلية، وأن 60% من الفئات النشيطة لا يستفيدون من أي حق في المعاش، بينما بلغت نسبة السكان المشمولين بأحد أنظمة التغطية الصحية 54.6% مع نهاية سنة 2016، لكن 45.4% من السكان ليست لهم أي تغطية صحية.

ويبدو أن جائحة كوفيد 19 تشكل محطة فارقة في هذا السياق، إذ أبرزت الحاجة إلى الدولة الاجتماعية كأولوية قصوى، بعد أن جعلت الجائحة المواطن عاريا أمام الوباء، وأمام ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية، بحيث تأكدت الحاجة إلى الدولة لمواجهة آثار الجائحة، باعتبارها الحاضنة الاجتماعية لكل مواطنيها.

وقد عبرت وثيقة النموذج التنموي الجديد الصادرة في ماي 2021، التي سعت إلى الإجابة عن إخفاقات السياسات العمومية، عن هذا المعنى، كما سبق الإشارة. وفي مارس 2021، جرى إخراج قانون الإطار المتعلق بالحماية الاجتماعية إلى حيز الوجود، وفق تصوّر يرتكز على مقاربتين هما “التأمين الاجتماعي” و”المساعدة الاجتماعية”.

على إثر ذلك، أعطى الملك محمد السادس الانطلاقة لتنزيل المشروع في 15 أبريل 2021، حيث ترأس حفل إطلاق مشروع تعميم الحماية الاجتماعية.

لقد أظهرت فترة كورونا أن هناك طلبا متزايدا على “الدولة القوية والفعالة”، رغبة في دور أعمق اجتماعيا، خصوصا في مجالات الحماية الاجتماعية، والصحة والتعليم والسكن والشغل. وعبّر المواطنون بصيغ مختلفة عن رغبتهم في دولة قادرة على إقامة منظومة صحية جيدة، وحماية اجتماعية شاملة وناجعة ومستدامة، ومدرسة عمومية في المستوى المطلوب، وكذا توفير السكن اللائق. ويلاحظ عموما أن الطلب على الدولة ارتفع بشكل غير مسبوق، وبشكل أعمق مما ورد في دستور 2011، وأعمق من النموذج التنموي القديم.

لذلك، يمكن القول إن القانون الإطار المتعلق بالحماية الاجتماعية شكل مرحلة أساسية في مسار تطور السياسات الاجتماعية بالمغرب. فعلاوة على أنه يعزز البعد الدستوري، تضمن تصورا طموحا لما ينبغي أن يكون عليه المغرب الاجتماعي، من خلال تعميم الحماية الاجتماعية، استنادا إلى مبادئ التضامن والاستباق وعدم التمييز والمشاركة، والذي أكد على ضرورة مراجعة كل التشريعات المتعلقة بالتغطية الصحية والضمان الاجتماعي، وبالمنظومة الصحية وعرض العلاجات، كما أولى عناية خاصة لمتطلبات الحكامة، من خلال آليات خاصة مكلفة بالتدبير والتنفيذ والتنسيق، وهي مضامين جعلت الباحث عبد الرفيع زعنون يستنتج، بعد دراسته للقانون، أن هناك “إرادة لدى الدولة لاستعادة زمام المبادرة في قيادة السياسات الاجتماعية”.

ذلك أن من بين الأهداف التي سعى القانون الإطار إلى تحقيقها: تعميم التغطية الصحية الإجبارية في أفق 2022، لفائدة 22 مليون مستفيد إضافي؛ تعميم التعويضات العائلية في أفق 2024، لفائدة حوالي 7 ملايين طفل في سن التمدرس؛ توسيع الانخراط في أنظمة التقاعد في أفق 2025، لفائدة 5 ملايين مغربي من الساكنة النشيطة؛ تعميم الاستفادة من التعويض عن فقدان الشغل في أفق 2025، بالنسبة لكل شخص يتوفر على عمل قار.

لكن يبدو أن الرؤية الملكية لم تنزّل كما ينبغي، بل جرى تحويرها من قبل رؤية حكومية ضيقة، نتيجة حسابات تجارية في الغالب، فهي رؤية تقنية أساسا تفتقر إلى الروح السياسية. لماذا؟

لقد كان منتظرا أن تعيد الحكومة النظر جذريا في النموذج التنموي القديم، الذي قام على انسحاب الدولة وتقليص دورها التنظيمي والاجتماعي، وفسح المجال أمام القطاع الخاص، والقوانين الطبيعية للسوق، مع تقديس الرأسمال.

نموذج لا مكان فيه لأي حماية اجتماعية من الدولة للفئات الهشة والفقيرة، ما أدى إلى استفحال الفقر، واتساع الفوارق الاجتماعية والمجالية.

وبدل أن تراجع حكومة أخنوش هذا التصور التنموي القديم، اعتمدت التوجه نفسه، إذ اختزلت كل القضايا والرهانات الكبرى للمغرب في البعد التجاري/البيزنس، مع تصوّر وفهم مشوّه للنموذج الليبرالي، يعتقد أن الزيادة في النمو تضمن بشكل طبيعي الربح والسوق والثروة. مشّوه لأنه تصور عاجز عن التفكير في الرهانات الاجتماعية، المتعلقة بإعادة التوزيع.

والنتيجة أنه بعد أربع سنوات من العمل الحكومي لم نغادر المفارقة السابقة نفسها: بينما تتعزز مصالح الرأسمال/القطاع الخاص، يتدهور القطاع العام أكثر. ويظهر ذلك بوضوح في قطاعي الصحة والتعليم، كما يظهر في عمق التفاوتات الاجتماعية والمجالية.

ويمكن العودة إلى تقارير رسمية مثل تقارير المجلس الأعلى للحسابات، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، التي توفر معطيات ومؤشرات لا تترك مجالا للشك بأن الدولة الاجتماعية مجرد شعار برّاق، يفتقر إلى المصداقية في الواقع.

من بين تلك المؤشرات، أن بطالة الشباب بلغت رقما قياسيا، إذ يفوق معدل البطالة في صفوف الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة 36,7 في المائة. وتناهز النسبة في صفوف حاملي الشهادات 20 في المائة سنة 2024، وهي نسب مخجلة.

أما بطالة خريجي التكوين المهنيو فبلغت نحو 24 في المائة، علما أن الحكومة تحاول دفع الشباب نحو هذا القطاع، بينما تؤكد نسبة البطالة أن نظام التكوين لا يتوافق وحاجيات الاقتصاد، وأن مؤسسات التكوين المهني تفتقر إلى جودة التكوين كذلك.

ويبدو أن الوضع في قطاع الصحة أسوأ بكثير، بسبب تفشي الرشوة والفساد، وغلاء الخدمات المتوفرة، وضعف التجهيزات الطبية، ونقص الأطباء، وفشل نظام الحكامة في القطاع، وهيمنة لوبي القطاع الخاص، وغياب أي تخطيط استراتيجي للقطاع. وهو الوضع الذي فجّر الاحتجاجات الحالية في المغرب.

أكثر من ذلك، يمكن رصد التفاوت نفسه داخل القطاع الخاص أيضا، إذ تسود لغة القوة، وتهيمن المقاولات الكبرى على المشاريع والصفقات في مقابل تراجع وضمور حصة المقاولات الصغرى والمتوسطة.

وقد كشفت دراسة لـ”الهيئة المغربية للمقاولات الصغرى”، أعلن عنها في يوليوز الماضي، أن حوالي 40 ألف مقاولة أفلست بسبب تعقيدات النظام الضريبي، وارتفاع التحملات الاجتماعية، وصعوبة الولوج إلى التمويل. علما أن المقاولات الصغرى والمتوسطة تشكل 90 في المائة من النسيج المقاولاتي المغربي، وتعد الرافعة الأساسية لأي اقتصاد متنوع ومنتج، والأكثر توفيرا لمناصب الشغل.

في الحاجة إلى حكومة اجتماعية

من خلال تجربة حكومة أخنوش، لا يبدو أن شعار الدولة الاجتماعية قد يستعيد بريقه بدون حكومة اجتماعية أيضا. وهو خيار غير ممكن بدون حل سياسي، خصوصا وأن المغرب يعاني من تفكك الروابط الاجتماعية، وينعكس ذلك على مستوى الثقة المنخفض في المؤسسات، وكما يؤدي إلى تراجع نسب المشاركة في الانتخابات، أو تعزيز الميول المكثفة نحو الهجرة أو العزلة في الفضاء الافتراضي.

في ظل هذا الوضع، تبدو الحاجة إلى مشروع سياسي واضح يوحد غالبية المواطنين، ويعبئهم من أجل الانخراط الفعال في القضايا الأساسية للأمة مطلبا ملحا، ما يقتضي إعادة الاعتبار إلى السياسة والفاعلين فيها.

في هذا السياق، تمثل الوثيقة الصادرة عن شباب “جيل Z” أرضية مهمة، تتقاطع في الكثير من عناوينها مع رؤى ووثائق وتقارير صادرة إما عن الدولة أو فاعلين وأحزاب جادة، وتلتقي أساسا في المطالبة بتجسير الهوة بين المغرب الذي تعد به النصوص القانونية، والمغرب المعيش يوميا. وعلى رأس تلك النصوص، دستور 2011 الذي يعد بمثابة “عقد اجتماعي” بين الدولة والمواطنين، ما يجعله ملزما للجميع. وتطالب الوثيقة في هذا السياق، بتفعيل الفصل الأول منه ولا سيما “ربط المسؤولية بالمحاسبة” وتعتبر هذا المبدأ “العمود الفقري لحجتنا المطالبة بالتغيير السياسي”.

كما تطالب بتفعيل الفصل 31 باعتبارها الركيزة الأساسية “لمطالبنا الاجتماعية”، خصوصا وأنه يلزم الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، بتعبئة كل الوسائل المتاحة، من أجل تيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات على قدم المساواة من “الحق في العلاج، والعناية الصحية، والحماية الاجتماعية، والتغطية الصحية، والحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة”.

وبتفعيل الفصل 33 الذي يلح على السلطات العمومية بأن تتخذ التدابير الملائمة” لمساعدة الشباب على الاندماج في الحياة النشيطة والجمعوية، وتقديم المساعدة لأولئك الذين تعترضهم صعوبة في التكيف المدرسي أو الاجتماعي أو المهني”. وتؤكد الوثيقة أن الحقوق الدستورية الواردة في الفصول الثلاثة السابقة ليست مجرد توصيات بل نصوص ملزمة للدولة وجب تفعيلها، وأي تقصير في تنفيذها يعد إخلالا يستوجب المحاسبة.

إلى جانب الدستور، تحاجج الوثيقة بالرؤية الملكية للتنمية، التي يعبر عنها من خلال خطبه، والتي تدعو إلى إحداث قطيعة مع أساليب التدبير القديمة، والدعوة إلى “الجدية” كمنهج للحكم والتنمية.

إن الدعوة إلى نموذج تنموي جديد كانت في جوهرها إقرار بحدود النموذج السابق. في هذا الإطار، طالبت الوثيقة بإصلاح الإدارة، ومحاربة الفساد، وتجويد الخدمات العمومية، وتعتبر أنها مطالب تتجاوب مع الدعوة الملكية المتكررة والتي تشخص بدقة نفس الأعطاب التي يعاني منها المغاربة مثل البيروقراطية، وضعف التنفيذ، وغياب الفعالية.

وقد توقفت الوثيقة عند أزمة الثقة بين الشباب والمؤسسات. واعتبرت أنها نتيجة عميقة ومتنامية بين الوعود الرسمية والواقع المعيش. خصوصا وأن استطلاعات الرأي ما فتئت تؤكد أن الثقة في الأحزاب قد انهارت، لتصل إلى 5 في المائة، بينما الثقة في الحكومة لا تتعدى 16 في المائة.

واستندت الوثيقة على خلاصات التقارير الوطنية الكبرى، واعتبرتها بمثابة “إقرار رسمي بالفشل”. إذ أشارت إلى تقرير الخمسينية الصادر سنة 2005، وتقرير “النموذج التنموي الجديد” الصادر في 2021. كما أشارت إلى “استشراء الفساد” اعتماد على التقرير السنوي للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها لسنة 2023، الذي أشار إلى تراجع المغرب في مؤشر مدركات الفساد بخمس نقط خلال السنوات الخمس الأخيرة… لتخلص إلى وجود حقيقة بنيوية: تمتلك الدولة رؤية طموحة للتنمية، بينما تظهر تقارير رسمية واقعا مغايرا تماما، يتسم بالفشل المنهجي، وعدم المساواة، والفساد.

لا يعني ذلك أن الرؤية خاطئة، في نظر معدي الوثيقة، بل هناك فشلا كارثيا في الحكامة وفي تنفيذ السياسات وفي الإرادة السياسية لدى الجهاز التنفيذي. لتؤكد أن الهوة بين الرؤية والتنفيذ هي المصدر الرئيسي لأزمة الثقة بين الشباب ومؤسسات الدولة.

تقترح الوثيقة تصورا بديلا للسياسات الحالية تحت عنوان “بناء دولة العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص”، بأولويات لا تختلف كثيرا عما ورد في تقرير النموذج التنموي الجديد، على رأسها تحقيق تغطية صحية شاملة تضمن الكرامة والحق في العلاج، خصوصا في ظل تقارير رسمية تتحدث عن وجود “8,5 مليون مواطن ومواطنة خارج دائرة الاستفادة الفعلية من الحماية الصحية”.

وتوصي الوثيقة بالعمل على إحداث “ثورة تربوية” من أجل رأسمال بشري مؤهل ومبدع. أما الأولوية الثالثة فتركز على بلورة “اقتصاد منتج يوفر الشغل اللائق ويحرر طاقات الشباب”، عبر إعادة توجيه استراتيجي للاقتصاد من خلال التطبيق الفعلي لتوصيات النموذج التنموي الجديد، الذي أوصى بتحويل الاقتصاد نحو قطاعات ذات قيمة مضافة عالية (التكنولوجيا، الاقتصاد الأخضر، الصناعات المتقدمة)، وذلك عبر استثمارات موجهة، وحوافز ضريبية، وإزالة العقبات البيروقراطية. واقتراح قانون وطني لدعم المقاولة لدى الشباب يوفر الولوج إلى التمويل الأولي، والإرشاد، والمواكبة ويضمن مساطر إدارية مبسطة، وإصلاح سوق الشغل من خلال قوانين تضمن حماية أكبر للشباب وتشجع التوظيف الرسمي وملاءمة رامج التكوين المهني مع الحاجيات المستقبلية لاقتصاد حديث ومبتكر.

وتلح المذكرة في الأولوية الرابعة على “استئصال الفساد وتكريس الحكامة الرشيدة”، من أجل تجاوز الفساد الذي أصبح “واقعا بنيويا”. ويتطلب تجاوز المقاربة المعتمدة من قبل حكومة أخنوش التي كانت “مجزأة وتفتقر إلى الإرادة السياسية والتنسيق الفعال”. وتعكس إرادة غير جادة لمكافحة الفساد، كما يدل على ذلك سحب قانون الإثراء غير المشروع، وتعطيل آليات الرقابة البرلمانية عبر رفض تشكيل لجان تقصي الحقائق في ملفات حساسة. وتطالب بضمان الاستقلالية السياسية والمالية الكاملة للهيئة الوطنية للنزاهة، وشفافية الصفقات العمومية، واستقلالية القضاء وتفعيل المحاسبة. كما تطالب بشفافية ثروات المسؤولين، وتجريم الإثراء غير المشروع.

وتختم المذكرة مطالبها بفصل كامل حول الحاجة إلى “تفعيل المسؤولية السياسية” باعتبارها شرطا لازما للانتقال نحو مغرب أفضل. إذ أكدت مرة أخرى أن هناك فجوة عميقة بين الوعود والواقع، وأن هناك فشل منهجي وشامل يمس كل المجالات الحيوية التي تشمل مستقبل الشباب.

وتضيف الوثيقة نفسها أن الحكومة الحالية فشلت في الوفاء بالتزاماتها المنصوص عليها في الفصل 31 من الدستور، كما فشلت في ترجمتها إلى سياسات عمومية ناجعة، وفشلت في تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي سطرها النموذج التنموي الجديد. واعتبرت أن خلاصات تقارير مؤسسات دستورية مثل المجلس الأعلى للحسابات والمندوبية السامية للتخطيط والهيئة الوطنية للنزاهة بمثابة شهادات رسمية وموثقة على هذا الفشل.

وللخروج من هذا المأزق تدعو الوثيقة إلى تفعيل العقد الدستوري، وخصوصا مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، والذي يقتضي بناء على التقارير الرسمية “رحيل الحكومة المسؤولة عن ذلك”؛ مؤكدة أن “مطلب استقالة الحكومة الحالية ليس شعارا شعبويا، بل هو النتيجة المنطقية والضرورية لتفعيل الدستور”. وفتح الطريق أمام فريق حكومي جديد، يتمتع بالكفاءة والمصداقية والإرادة السياسية، وقادر على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة لاستعادة الثقة بين الشباب ومؤسسات بلدهم.