إسرائيلياتنا المعاصرة
لا شيء تغيّر، الدعاية الإسرائيلية تشتغل وفقا للقاعدة ذاتها: بالون اختبار، ثم تسريب محسوب، فبناء سردية على ردّات فعلنا لا على الوقائع.
أمس فقط عشنا نسختين متناقضتين من الخبر نفسه: إعلان عن استئناف الرحلات المباشرة نحو الدار البيضاء ومراكش، مع تغليف الأمر بادعاء مفاده أن المغرب هو “أول بلد إسلامي يفتح أجواءه” لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر؛ ثم، في اليوم عينه، حديث عن “تحفّظات أمنية” إسرائيلية تمنع الخطوة.
في الحالتين، كان القرار والمنبر والمفردات من هناك؛ أما من هنا فغابت الرواية الرسمية، وغاب الإطار السيادي الذي يضبط المعلومة ويمنع تحويلنا إلى موضوع تلاعب.
تجميد الرحلات كان قرارا إسرائيليا. و”البشارة” باستئنافها إسرائيليّة. والفيتو الأمني إسرائيلي. أما نحن فتركنا المساحة الرمادية تتوسع حتى صارت هي الخبر.
يعيد هذا المشهد السؤال المؤجَّل إلى الواجهة: ما مستقبل العلاقات المغربية الإسرائيلية بعد توقف حرب الإبادة على غزة؟
لا جواب سوى شعارات متقابلة تُريحنا من عناء التفكير: “كلنا إسرائيليون” في أقصى التبرير، و”ضد التطبيع” في أقصى القطيعة. وبينهما منطقة ضبابية نترك فيها القرار للدولة وحدها، ثم نكتفي بعد صدوره بالزغاريد أو المراثي.
هذه ليست عبقرية وطنية، بل تخل طوعي عن المسؤولية السياسية والأخلاقية. ما نحتاجه فعلا هو اختيار وطني معلن يحدّد الغاية والحدود، ويوضّح ما الذي يُفتح وما الذي يُغلق؟ متى ولماذا وكيف؟ وما الخطّ الأخلاقي الذي لا ينبغي أن يطوله تفاوض؟
تتطلّب الاختيارات الكبرى آلية ملزِمة بشفافية إجرائية. وتحتاج إلى جلسات استماع برلمانية علنية، بحضور الحكومة والفاعلين الأمنيين والدبلوماسيين، وورقةُ إطار تنشرها السلطة التنفيذية تُعرّف أهداف التطبيع وحدوده وربطه غير القابل للالتباس بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، ثم تقارير دورية عن الكلفة والمردود تُعرض على الرأي العام.
وحتّى لا نعود إلى لعبة البالونات، يلزمنا صوتٌ رسمي يشرح ويعلّل ويُحاسَب. الإعلام العمومي ينبغي أن يُخاطب الناس بلغة الوقائع لا لغة البلاغات، والدبلوماسية مطالبة بمحاورة المجتمع بدل الاكتفاء بطمأنة الخارج، والجامعة والمجتمع المدني في وضع سليم سيرفدان القرار بالمعرفة لا بالشعارات.
حين نُعلن قواعدنا نحن، يصبح أي خبر عن “استئناف رحلات” أو “تعليقها” تفصيلا يُوزَن بميزاننا لا بمزاج غرف مظلمة خلف الحدود. تلك هي السياسة حين تستعيد اسمها ومكانها، عنوانها مصلحةٌ وطنيةٌ مصونة بضمير جمعي، وهذا الأخير مسنودٌ بأدوات دولة تعرف ماذا تريد ولأي ثمن.
لم يعد الخروج من ثنائية “مع/ضد”” ترفا. بل هو شرطٌ لبناء سياسة تحفظ الكرامة وتدير المصلحة. فالمصلحة بلا ضمير جماعي تُحوّل الدولة إلى تاجر بلا ذاكرة. والضمير بلا أدوات قوة يُحوّل القضية إلى نشيد بلا أثر. الوصفة المغربية الممكنة تجمع بين الأمرين: لا تطبيع مع القتل والاحتلال، ولا تبديد للمصالح حين تقتضي الواقعية ما يلزم من دهاء ومهارة.
يفترض ذلك وجود مؤسّسات ناطقة تُخاطب الرأي العام حين يتعلّق الأمر بملفّ بهذه الحساسية، وتُفصّل المقتضيات الأمنية والقانونية، وتضع حدا للعبة التي تُعيد تعريف سيادتنا من وراء ظهورنا.
حين يصبح الإعلان عن الرحلات، مثلا، إجراء تقنيا ضمن مسطرة شفافة، لن تعود المنصّات هناك قادرة على صناعة خبرنا هنا.
ثمة عنصر ناقص في نقاشاتنا الوطنية: آن الأوان لاستعادة بعدنا اليهودي الأصيل بوصفه مكوّنا من هويتنا، لا ورقة ابتزاز في بازار السياسة والإعلام. فقبل الاستعمار وأثناءه وبعده، جرى تفكيك هذه الصلة عبر “الحماية القنصلية” التي نزعت اليهود من سيادة دولتهم، والمدارس اليهودية-الفرنسية التي جعلت يهودنا يصبحون غرباء بيننا، ثم موجات التهجير التي جرّدت يهود المغرب من انتمائهم، وأخرجتهم تباعا من الجغرافيا ثم من الذاكرة.
لم يكن ذلك قدرا ثقافيا بل سياسة ممنهجة رتّبتها قوى خارجية، واستسلمنا لها في الداخل، حتى صار حضورهم التاريخي مادة للتوظيف والتجريح بدل أن يكون رصيدا للتماسك الوطني.
استعادة هذا البعد ليست زينة ولا مقايضة ولا بديلا عن موقفنا الأخلاقي من الاحتلال. إنها ورش قانون وثقافة ومواطنة. والوقوف الدقيق عند حضور البعد اليهودي في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المغرب، منذ مؤتمر مدريد 1980، والذي أصبح اسمه “البعد الإسرائيلي”، بات حتمية، ليس للاستسلام لقدر التطبيع الابراهيمي، بل لإعطاء الأمور حجمها، وحجمها الضروري فقط.
إنه ورش يجعل الحقٌّ في الانتماء غير مشروط بالاصطفاف الخارجي، ومناهج التعليم تُدرّس التاريخ المشترك بلا حذف أو تبرير، والتشريعات تُساوي في الاحترام والكرامة وتحمي الذاكرة من التزوير والاستغلال، والسياسات الثقافية تُفسح مكانا حقيقيا للغة والتراث والطقوس، لا مجرد كرنفالات موسمية.
حين نعيد وصل ما انقطع بهذه الأدوات لا بالشعارات، نحصّن مجتمعنا من الدعاية التي تتاجر بيهودنا وتُهينهم في الوقت نفسه، وننزع من يد كل متلاعب ورقة طالما استُخدمت للضغط أو للشيطنة.
هذه الاستعادة جزء من معنى “الوحدة” التي صارت لنا عيدا. وحدة غنى وتعدّد داخل سقف سردية وطنية جامعة، تُميّز بيقين بين يهودية مغربية أصيلة وبين مشروع استعماريّ لا مكان له في ضميرنا.
وحدةٌ تجعلنا أقدر على مقاومة الظلم خارجيا، وأشدّ إنصافا لأنفسنا داخليا، وتُراكم الثقة بدل الريبة، وتحوّل الذاكرة من عبء إلى قوة، والاختلاف من مصدر للابتزاز إلى سبب إضافيّ لرسوخ الدولة وكرامة المجتمع.
القضية اليوم ليست إن كان الإسرائيلي سيطير غدا إلى الدار البيضاء أم لا. القضية في من يملك قرار المعنى، ومن يصوغ الكلمات الأولى التي تُحدّد الإطار، ومن يشرح للناس لماذا يحدث ما يحدث وكيف.
إن تركنا غيرنا يكتب الخبر عنّا، سنواصل العيش بين انفعالين متناقضين. وإن صغنا نحن إطارا مُعلَنا يوازن بين الحقّ والواقعية، سيستحيل كل تسريب خارجي إلى تفصيل يقاس على ما أعلناه نحن من هنا.
يوم نمتلك هذه السردية السيادية، لن تكون “الرحلات” أكثر من خطّ جوي يشتغل أو يتوقّف حسب شروطنا. ويومها فقط، سيُكتب خبر المغرب بأيد مغربية، في التوقيت المغربي، وبمنطق دولة تعرف ماذا تريد ولأي ثمن.