“إحباطة” دي ميستورا

اطّلعنا أخيرا على مضمون الإحاطة التي قدّمها المبعوث الشخصي للأمم المتحدة إلى الصحراء، الإيطالي-السويدي ستيفان دي ميستورا، أمام مجلس الأمن الدولي، في جلسته العادية المغلقة التي عقدت أول أمس الإثنين 14 أبريل 2025.
وكثيرون اعتبروا مضمون هذه الإحاطة إيجابيا ومطابقا للانتظارات والآمال التي ولّدتها الاختراقات الدبلوماسية الكبيرة التي حققها المغرب في هذا الملف مؤخرا.
وقبل أن أدلي برأي متواضع حول مضمون هذه الإحاطة، دعوني أسجل بداية وبكل الوضوح الممكن، أن المغرب حقّق في السنوات والشهور الأخيرة خطوات إيجابية كبيرة، تتمثّل أساسا في الاعترافين الأمريكي والفرنسي بسيادة المغرب على صحرائه.
هذه نجاحات كبيرة ولا يمكن أن ينكرها إلا جاحد أو جبان. وعندما نقول نجاحات في ملف الصحراء فإن ذلك يعود بشكل مباشر وحصري للملك ومعاونيه، من مستشارين ووزير للخارجية وممثل دائم لدى الأمم المتحدة وأجهزة استخباراتية…
نقول دائما إن هناك احتكار للملف، وهذا صحيح، وهو ما ينطوي على مخاطر كبيرة سأبقى من بين المحذّرين منها، لأن أي فشل أو تراجع سيكون من مسؤولية الجهة المحتكرة نفسها؛ لكن هذا المنطق نفسه يفرض الاعتراف أيضا بفضل النجاحات والاختراقات لهذه الدائرة الضيقة المحتكرة لتدبير الملف.
هذا “مسمار” و”طرّقناه”، كي لا يعتقد البعض أنني وأنا أحاول القيام بدوري ووظيفتي الأساسية كصحافي، أي الحرص على التوازن والتركيز أكثر على النصف الفارغ من الكأس، كما هي وظيفة هذه المهنة في بلاد الله المتقدّمة؛ فلننتقل إلى مضمون الإحاطة التي كنا في “صوت المغرب” سبّاقين إلى الحصول على نصها الكامل، ونشر أهم مضامينها، باللغة العربية على الأقل.
قرأت الوثيقة باللغتين الفرنسية والإنجليزية، كما اطّلعت على بعض الترجمات غير الرسمية إلى اللغة العربية، وانتهيت إلى الخلاصة التالية:
ستيفان دي ميستورا متوتّر (إن لم أقل غاضب) وكتب نص الإحاطة بمنطق ردّ الفعل، والشهور الثلاثة المقبلة التي اعتبرها حاسمة، لا تتعلّق بمآل النزاع بقدر ما ترتبط بمصير الرجل ومواصلته لمهمته.
الدبلوماسي المتقدّم في السن لم يكتب إحاطته بلغة تقريرية هادئة ولا حتى بلغة دبلوماسية، بل كان يردّ وبانفعال على الرسالة الصارمة التي أتته مؤخرا من الإدارة الأمريكية، في شكل استقبال يحمل معنى الاستدعاء، خصّته به المسؤولة الرفيعة للشؤون السياسية بوزارة الخارجية الأمريكية، ليزا كنا، يوم الخميس الماضي (10 أبريل 2025)، لتُسمعه كلاما قاسيا وصارما، لخّصه بيان الخارجية الأمريكية في أن “مبادرة المغرب للحكم الذاتي، تحت السيادة المغربية، هي الحل الوحيدة لملف الصحراء”.
التوتّر والغضب كانا واضحين في إحاطة ديميستورا، وهو يتحدّث بضمير الأنا بشكل مبالغ فيه، ويقول للمجلس إنني أخبرتكم قبل ستة أشهر، أنني آمل أن “أكون بحلول أبريل 2025 في وضع يسمح لي بتقديم تقرير عن التقدم المحرز نحو التوصل إلى حل عادل ودائم ومتفق عليه للنزاع، حل يُتيح أيضا لشعب الصحراء الغربية ممارسة حقه في تقرير المصير. لذا فإن من واجبي أن أعود إليكم لأطلعكم على الوضع الحالي”.
وقبل أن يقدّم ما قال إنه وعد به وجاء لتقديمه، سارع دي ميستورا إلى إخبار المجلس بتطوّرين قال إنهما حديثين للغاية و”يمكن أن تكون لهما آثارا مهمة على الجهود الرامية إلى تهدئة التوترات في المنطقة”.
أول ما أشار إليه الدبلوماسي الإيطالي هو الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة إلى واشنطن، والتي التقى خلالها نظيره الأمريكي، لتقوم الخارجية الأمريكية بعدها مباشرة باستدعاء ديميستورا وتسلّمه إنذارا شديد اللهجة، يؤكد حصرية الحل المغربي في التطبيق، وهو ما يعني سحب فكرته الأخيرة بالعودة إلى مشروع التقسيم.
والمثير في حديث دي ميستورا، أنه جعل التطوّر الثاني المؤثر في مسار النزاع برأيه، هو قيام وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، بزيارة الجزائر في 6 أبريل 2025.
مكمن الإثارة في هذه الإشارة هو أن دي ميستورا نفسه يقول إن الطرفين الفرنسي والجزائري لم يقوما بأية إشارة مباشرة إلى ملف الصحراء، لكنه يصرّ رغم ذلك على أنه تطوّر حديث ومهم في تدبير النزاع.
ماذا يريد الدبلوماسي الإيطالي أن يقول؟
إن الإحاطة هي بمثابة احتجاج وقلب للطاولة، وتعبير عن كونه لم يعد صاحب القرار أو التأثير الفعلي في مسار حل النزاع، وأن كلا من واشنطن وباريس قد سحبتا البساط من تحت قدميه وفرضتا عليه أجندتهما، وانخرطتا في دعم الموقف المغربي من جهة، والضغط على الجزائر من جهة ثانية.
والحديث عن الشهور الثلاثة المقبلة لا يمكن أن يُفهم إلا كتلميح إلى انسحابه أو استقالته من هذه المهمة، بما أن ما بين سطور الإحاطة نفسها لا يتوقّع أي تقدّم حقيقي على الأرض.
لننتبه إلى التعليق الذي تلا إشارة دي ميستورا إلى التطوّرين الأمريكي والفرنسى:
“أعتقد أن التطورين مهمّين. فالمشاركة الدبلوماسية في المنطقة من قبل عضوين دائمين في هذا المجلس تُعد مؤشرا على الاهتمام المتجدد بالفرص، لكنها أيضا تُظهر المخاطر القائمة”.
الكلمة المفتاح هنا هي “المخاطر”.
والرجل ينتقل مباشرة إلى التنبيه إلى كون العلاقات المغربية الجزائرية لم تشهد أي تحسّن، وأن هذا التحسّن هو شرط ضروري “لتفادي خطر نشوب صراع إقليمي”.
أي أن الوسيط يلوّح بورقة الحرب، ويشير إلى سباق التسلّح المتواصل بين المغرب والجزائر.
وكما لو أن الرجل تعلّم أسلوب “التقلاز من تحت الجلباب” من المغاربة وراح يستعمله ضدهم، قام دي ميستورا بتأويل العبارات الواردة في بلاغ الخارجية الأمريكية عقب الزيارة الأخيرة لبوريطة، متوقفا عند كلمة “حقيقي” (genuine) التي أضافتها الخارجية الأمريكية لوصف مقترح الحكم الذاتي المغربي، على أنه انتصار لمقاربته التي نهجها سابقا، وطالب فيها، مستعينا بضغط جنوب إفريقيا، بتقديم تفاصيل إضافية لهذا المقترح، متخذا بذلك موقع الطرف الخصم للمغرب.
“…هذا ينسجم مع قناعتي وطلبي بأن مبادرة الحكم الذاتي المغربية يجب أن تُشرح بمزيد من التفصيل، ومن ثم توضيح الصلاحيات التي سيتم تفويضها لكيان يتمتع بالحكم الذاتي الحقيقي في الصحراء الغربية”، يقول سيتفان ديميستورا.
الغضب والتوتّر يتأكدان أكثر في إحاطة الدبلوماسي الإيطالي، حين يشير إلى حتمية المرور عبر مفاوضات “فعلية” بين الأطراف الفعلية، دون أن يخفي انحيازه للطرف الآخر، حيث استعان بعبارة وضعها على لسان سيدة قال إنه التقى بها في مخيمات تندوف، ختمت شكواها المفترضة بالقول: “عندما أموت، لا أريد أن أُدفن هنا. أريد أن أرى وطني، وأن أُدفن هناك.”
وتبرز نرفزة ديميستورا أكثر، عندما يقع في خطأ فادح ولا يغتفر، ويقول إن عام 2025 “يمثل الذكرى الخمسين لإدراج قضية الصحراء الغربية على جدول أعمال الأمم المتحدة”.
كل مبتدئ في الاطلاع على تاريخ النزاع يعرف تمام المعرفة أنها الذكرى الخمسينية للمسيرة الخضراء، بينما كان الملف مدرجا لدى الأمم المتحدة وبطلب من المغرب في مواجهة إسبانيا، قبل أكثر من عشر سنوات من ذلك التاريخ.
هذا الخطأ يبيّن أن الرجل متوتّر وغاضب من الاختراق الذي حققته الدبلوماسية المغربية، خصوصا أن عمر هلال يتحدّث علنا عن الذكرى 50 للمسيرة الخضراء، وهو ما سبّب هذا الخلط في ذهب الدبلوماسي الإيطالي المتقدّم في السن.
وبالتالي أستسمح اللغة العربية في هذا التعسّف، لأقول إن ما قدّمه المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة هو تعبير عن إحباط، وبالتالي يجدر تسميته “إحباطة” بدل “إحاطة”.