أنس حي… ونحن الموتى!

قف أيها العالم، اخلع ربطة عنقك، وامسح بريق نظّارات مؤتمراتك الكاذبة، فأنت اليوم متّهم في قفص التاريخ. لا قرينة براءة لدي من أجلك، ولا رحمة ولا شفقة عندي تجاهك، سأصفعك حتى تتساقط أوراق التوت عن عورتك، سأركلك حتى تتدحرج هيبتك المزيفة في مزابل القرون.
نعم، أنت أيها العالم، بحكوماتك الماسخة التي لا تجرؤ على مواجهة المرآة، وبنخبك التي تبيع شرفها في سوق السياسة، وبإعلامك المخصي الذي لا يعلو صوته إلا على الضعفاء، وبمؤسساتك التي تتشدّق بحقوق الإنسان وهي تغمس تواقيعها في دم الأطفال، وبمنصاتك السفّاحة التي تمسح الدم من الشاشات وتبقي الكذب يتكاثر مثل صراصير المجاري.
لقد قُتل أنس الشريف، أيها العالم الوغد الحقير.
لم يكن حادث سير،
ولا “خطأ في الإحداثيات”،
ولا حتى ضحية عرضية.
آه… حتى الكذب أصبحتم تبخلون به علينا! لم تكلفوا أنفسكم صناعة ذريعة تليق بخسة أفعالكم.
قتلتم أنس، وخرجتم تخبروننا ببرود أنكم قتلتموه، وأن الدور قادم على من كان سينقل إلينا مجزرتكم.
موت أنس الشريف وجع يعض القلب بأسنانه، لا لأنه فلسطيني آخر على قوائم الإبادة، بل لأنه كان موتا مبرمجا، متوقعا، مكتوبا على الجدران وفي العيون.
كان أنس نفسه يشيّع أيامه علنا، يقولها لنا كل ساعة: “سيقتلونني”.
كان يراهم في الهواء، يشمّ رائحتهم في الليل، يقرأ اسمه في قوائم الاغتيال.
ومع ذلك تركناه وحيدا، كما يترك القطيع جريحه خلفه للذئاب.
لم يخذلنا أنس.. بل نحن الذين خذلناه.
أمس، في تلك الليلة التي أثقلها الحصار، جاء الموت الغادر وهو يحمل صورة أنس في جيبه. يعرف خيمته الممزقة أمام بوابة مستشفى الشفاء، يعرف موضع وسادته، يعرف أنه لا يختبئ ولا يراوغ.
اقترب السفاح كما يقترب كلب الصيد من الطريدة الأخيرة، ثم أطلق قذيفته، لا لتسكت الكاميرا فقط، بل ليكسر قلبا ظل ينبض بالحكاية من الفجر حتى الفجر.
وتحت الركام، سكت الصوت الذي تحدّى الخوف، وبقيت وصيته ترفرف فوق الأنقاض مثل راية لا تنحني.
لقد كان اغتيالا مقصودا ومتعمدا، بصاروخ صنع خصيصا من أجله، يحمل اسمه، وبُعث إليه حتى خيمته المهترئة… جريمته الوحيدة أنه ظل يصرخ في وجه العالم:
“انظروا… هنا تُرتكب جريمة إبادة”.
بين مراسلة وأخرى، كان أنس يكتب وصاياه على عجل، ويلتقط أنفاسه بين قصفين ليقول لنا: سيقتلونني قريبا… إنهم يراقبونني، يقتربون، يعرفون وجهي، يحفظون صوتي.
لقد كان أنس شاهدا حيا على الجريمة قبل أن يُصبح اسمه في قائمة الشهداء.
ونحن؟
كنا هنا، على الضفة الباردة من العالم، نمارس هواية الفرجة، ونغيّر القنوات، ونقلب صفحات الأخبار وكأن الموت في غزة مجرد “برنامج” لا يعجبنا فننتقل لغيره.
أنس، الذي كان يروي الحكاية منذ أن يفتح الفجر جفنه حتى يذبل قمر الليل، كان صوته جسرا بيننا وبين الحقيقة، يمر فوق نهر من الدم ولا ينكسر.
كان صوت أنس يقتحم أصوات الصواريخ ليقول: “ما زلت هنا، أكتب، أرى، وأشهد”.
لكنه فجأة، وتحت وابل من نار مقصودة، انكسر الجسر. وسكت صوته، لا لأن الحكاية انتهت، بل لأن الركام أثقل صدره ومنعه من التنفس.
نام أنس نومته الأخيرة وفي صدره شظيّة ووصية.. وصية كتبها لأنه كان يعرف أن هذه الليلة ستأتي، وأن آلة القتل ستبحث عنه في العتمة، وأننا نحن، الأحياء الميتون، سنكتفي بالفرجة.
كتب أنس يقول: “إن وصلتكم كلماتي، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي… سامحوني إن قصّرت. موتي على المبدأ أهون عليّ من أن أعيش بلا كرامة”.
أي كلمات هذه؟
رجل يكتب للأمة وهو يعرف أن القذيفة في الطريق. يكتب وهو يلمح خيط الدخان الأخير قبل أن يبتلعه اللهب.
رجل أوصانا بفلسطين، وبأطفالها الذين ينامون على حجارة المخيم، وبمدينته عسقلان التي حُرم من العودة إليها، وبابنيه شام وصلاح، وبزوجته، وبأمه التي كان دعاؤها حصنه الأخير.
لكن، أي وحشية هذه التي تبدأ بقصف الصحفي قبل اقتحام المدينة؟
أي قاع وصل إليه العالم حين يُستهدف حامل الكاميرا قبل أن تبدأ المذبحة التالية؟
إنها جريمة قتل الشاهد قبل ارتكاب الجريمة الكبرى.
فالاحتلال يعرف أن الحكاية أخطر من الرصاصة، وأن الصورة أقوى من الدبابة، لذلك يعدم الكاميرا أولا.
كتب زميله المغربي محمد الرماش، ما يلخص فضيحتنا الأخلاقية: “مات أنس ومات كثيرون ونحن نصارع الحمقى من بني جلدتنا”.
نعم، العار ليس فقط على القتلة الذين ضغطوا على الزناد، بل على كل يد صافحتهم، وكل لسان برّر جرائمهم، وكل دولة صمتت، وكل حاكم غسل يديه من الدم ببيان باهت.
أيها العالم، غزة ليست فيلما وثائقيا تشاهده ثم تذهب للنوم.
غزة مسرح جريمة تُبث على الهواء، وشهداؤها يكتبون وصاياهم قبل النوم لأنهم يعرفون أن النهار قد لا يأتي.
أنس الشريف لم يكن مجرد مراسل.
بل كان ضميرا حيا يمشي على قدمين أعياهما الجوع والخذلان.
وحين يُقتل الضمير، يصبح الصمت جريمة.
ألا تخجلون وأنتم تقرأون وصية رجل كتبها وهو يشمّ رائحة موته لأنكم أوغاد لن تحموه؟
ألا ترتعش أيديكم العاهرة وأنتم ترون خيمته الممزقة تُسحق كما تُسحق آخر بقايا نخوتكم؟
اغتيال أنس الشريف ليس خبرا يمرّ في نشرة مسائية،
إنه ضربة نعل غليظة على وجه إنسانيتكم العفنة، تقول إنكم شركاء في الجريمة، بالصمت، وبالتواطؤ، وبالجبن، وببيع ضمائركم في سوق النخاسة السياسي.
إنه لعنة تلاحق أصواتكم التي ترتجف أمام الحقيقة، وإعلامكم الذي يلوّث الحبر بدم الكذب، ونخبكم التي تحفر في وحل تفاهتها بينما تُذبح أمة على مرأى الأرض والسماء.
سيكتب التاريخ أن رجلا اسمه أنس، ظل يروي الحكاية حتى صارت وصيته آخر حكاية.
وسيكتب أيضا أن العالم كان مشغولا بأكاذيبه.
رحمك الله يا أنس…