أحييكم من الآخرة!

اليوم بلغت الثانية والأربعين. لم أحتفل كثيرا. لكنني وجدت نفسي محاطا باحتفال من نوع آخر، صامت لكنه واسع، قادم من كل شاشة ومن كل زاوية رقمية دخلتها ذات يوم.
منصات البريد الإلكتروني التي تسجلت فيها منذ سنوات، تطبيقات العمل والتواصل، مواقع البيع والشراء، بل وحتى بعض المنابر الإعلامية التي قرأت مقالاتها ذات مرة… جميعها تذكرتني في اللحظة ذاتها.
تنهال التهاني كأنني شخصية عامة في مسرح رقمي، تحيط بي بياناتي أكثر مما تحيط بي مشاعري.
أقف أمام هذا المشهد وأسأل نفسي: هل ما يحدث أمر إيجابي أم سلبي؟
من جهة، يمنحني ذلك إحساسا بالانتماء إلى شبكة عالمية لا تنسى أحدا، حيث لكل تاريخ ميلاد قيمة محفوظة في ذاكرة الخوادم.
ومن جهة أخرى، ينتزع مني ما كان يوما حميميا، محاطا بدائرة ضيقة من الأهل والأصدقاء، ليحوّله إلى ذكرى عامة، تشاركها خوارزميات لا تعرفني إلا كرقم في قاعدة بيانات.
لم يعد عيد الميلاد، في زمن الطفرة الرقمية، شأنا شخصيا بقدر ما صار مناسبة مؤتمتة، تُدار بالأكواد والبرمجيات.
ولم يعد سؤال “من تذكّرني؟” قائما، فالجميع يتذكرني، لكن لأن الجميع مسيَّر بذاكرة خارجية لا تُخطئ المواعيد.
ومع ذلك، يبقى السؤال الأعمق: هل هذا “الاحتفال الشامل” يعزز قيمتنا الإنسانية أم يختزلها في مجرد بيانات؟
أفكر أحيانا أن ما يحدث اليوم هو تمرين قاس على إدراك أن حياتنا كلها، شيئا فشيئا، لم تعد ملكنا وحدنا. صرنا نعيش بين أذرع منصات تعرف عنا أكثر مما يعرف أقرب الناس إلينا. وهكذا، يصبح يوم الميلاد نفسه مرآة للتحوّل الكبير: من ذكرى عائلية حميمة إلى حدث رقمي يخصّ “النظام” أكثر مما يخصّ الفرد.
نحن أبناء جيل وُلد في برزخ بين زمنين. فتحنا أعيننا على التلفزيون بالأبيض والأسود، وعايشنا لحظة انفجار القنوات الفضائية التي قلبت بيتنا الصغير إلى نافذة على العالم. حفظنا في آذاننا صدى التمثيليات الإذاعية، وأصوات أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم ومحمد الحياني والمعطي بلقاسم… وهم ينسجون مطوّلات غنائية تتجاوز حدود الوقت.
جلسنا في الأسواق الشعبية نستمع لحكايات الحكواتي كما لو كانت رواية تُكتب على الهواء مباشرة، وتفرّجنا بشغف على السينما المصرية الكلاسيكية بما تحمله من رومانسية وخيال.
ثم ما لبثنا أن وجدنا أنفسنا، في عز مراهقتنا، نرتاد مقاهي الإنترنت الأولى، نجرّب “التشات” على منصات مثل Caramail وMSN، ونجلس أمام شاشات الحواسيب الثقيلة كما لو كنا نستكشف قارة مجهولة.
كبرنا مع الشبكات الاجتماعية ونحن طلبة، في عمر يسمح لنا بفهمها واستيعابها وترويضها.
لسنا جيل “إكس” ولا جيل “زد”، نحن جيل وسيط يختزن في ذاكرته العالمين: عالم التجربة الملموسة والتأمل الواقعي، وعالم الشاشات والخوارزميات. لذلك نحن، عن حق، الجيل الذهبي.
جيل لم ينقطع بعد عن جذور الحكاية الشفهية، لكنه استوعب، في الوقت نفسه، أولى لغات المستقبل الرقمي.
نحن أبناء برزخ فريد، نعرف أن الضفتين لا تلتقيان، لكننا تعلمنا أن نسبح بينهما.
نحن جيل رأى كيف يسقط الإنسان مرارا، كل يوم، في فراغ كان الوقت فيه وفيرا.
ذلك الفراغ لم يكن خواء، بل كان حافزا على التأمل، والاستغراق في المطوّلات، والارتماء في الكتب، والتفلسف حتى.
كنت واحدا ممن يسجّلون أسماءهم كل سنة في لوائح المشتركين بخزانة دار الشباب، ثم بخزانة المدرسة، نستعير الكتب مقابل ضمان مالي أو تحت رقابة أمينة حريصة، ونقضي الساعات الطوال نتأمل الصفحات، ندوّن الملاحظات، نقارن بين رواية وأخرى، ونبني وعيا من فتات النصوص الكبيرة.
وفي الوقت نفسه، كنا نقفز مع أجيال لاحقة إلى زمن الملخصات، والكبسولات التي تختزل المطوّلات في بضع صفحات أو دقائق.
رأيتُ بعيني هذا التحول: من زمن يستدعي التفرّغ لساعات لمطالعة مجلد، إلى زمن يقدّم لك مراجعة كتاب كامل في ثلاث دقائق.
وجدتني، قبل أيام فقط، مبهورا أمام حلقات يقدّمها شاب يافع، ببيجامة نومه، من داخل غرفته الشخصية، يروي بتقنيات بسيطة قصة “الفتنة الكبرى” وما تلاها من أحداث شكلت صدر الإسلام.
عدتُ لمشاهدتها أكثر من مرة، وأنا أتساءل بصدق: هل يختلف نصف ساعة الذي يقدّمه هذا الشاب، عن تلك الأيام التي قضيتها بين كتب طه حسين وهشام جعيط في الموضوع نفسه؟
اليوم، وأنا أخاطب أجيال الشاشات، أقاوم بكل ما أُوتيت من قوة غواية السقوط في الأحكام الجاهزة، تلك التي تُحوِّل النقاش بين الأجيال إلى معركة عبثية بين “العصر الذهبي” و”آخر الزمان”.
لا أسمح لنفسي أن أضع جيلي في مقام المثال المفقود، ولا أن أضع الأجيال الجديدة في خانة الضياع الكامل.
ومع ذلك، أشعر في داخلي وكأنني كائن عائد من الآخرة، من دار أخرى، يطلّ على حاضر لا يشبه الماضي إلا بالاسم.
كأننا جيلٌ من “الأموات الأحياء”، خرجنا من زمن آخر، نحمل في ذاكرتنا روائح الحبر، وصفحات الكتب المتآكلة، وضجيج الراديو، وطقوس السهر حول المسلسلات، لنجد أنفسنا اليوم غرباء بين أبناء الشاشات.
نحن أشبه بمن يموت ثم يعود من عالم البرزخ. لا مكان لنا في ذاكرة الجيل الجديد، ولا قدرة لنا على العيش خارج ذاكرتنا نحن. نُطلّ عليهم بملامح من عاش أكثر مما ينبغي، فينظرون إلينا كما يُنظر إلى الأطلال: فضولٌ قصير العمر، سرعان ما يُطوى، ليعودوا إلى عوالمهم التي لا نعرف لها مفاتيح.
لا أعرف بالضبط هل نحن محظوظون بعيش أكثر من حياة، أم أن أعمارنا اجتزئت وسرقت منا وانتهت صلاحيتنا قبل الأوان.
في أحد اللقاءات المهنية الدولية، سمعت عبارة ظلّت ترنّ في أذني: ثمة فرصة أمام الإعلام اليوم لنقل ما جرى قبل عصر الشاشات إلى الأجيال الصاعدة.
فرصة لفتح نافذة نحو عالم لم يعرفوه: عالم ليالي رمضان حين كان “الورق” و”الضامة” يجمع العائلات حول طاولة صغيرة، حين كانت المسلسلات المغربية تصنع إيقاع الأمسيات، وحين كانت رائحة الطعام تمتزج بنغمات الإذاعة الوطنية في مطابخ الأمهات.
هذه الأجيال لم تتسلم المشعل كما كنا نفعل نحن، ولا كما فعل من سبقنا. فالمشعل اختُطف فجأة، لتتسلمه الشاشات التي استعمرت عقولهم الصغيرة قبل أن تكتمل، وصاغت هويات هجينة تجعلنا نقف أمامهم غرباء.
نحن لا نعرفهم كما كنا نعرف إخوتنا وأبناء جيراننا، وهم بدورهم لا يعرفوننا، كأن بيننا وبينهم حجابا سميكا من الضوء الأزرق الذي يغمر وجوههم كل مساء.
معطيات الواقع الرقمي الجديد تجعلنا نعيش شكلا آخر من الغربة، غربة عن بعضنا البعض حتى ونحن نتقاسم الجدران نفسها.
غربة صامتة تُشيخنا قبل الأوان، كأن أعمارنا تُستهلك في محاولة اللحاق بعالم لا يتوقف عن الجري.
أسمعها في كل صباح من طفلتي التي أصرت على العدّ التنازلي من 42 إلى الصفر وهي تحتفل بعيد ميلادي هذا، وهي تضحك بدهشة صادقة: كيف لك أن تعرف كل تلك الأسماء الغريبة والأغاني العجيبة؟
كلماتها تحمل براءة جيلها، لكنها تُشعرني أنني كائن طالع من زمن غابر.
أصرّ، في الطريق نحو المدرسة، أن أفرض عليها تلك الأغاني التي كبرتُ معها، أفرضها عمدا كمن يقاوم طوفان النسيان.
أبحث عن دقائق معدودة أقتنصها من حصار المانغا وقصص اليوتيوب والأغاني الكورية التي تملأ يومها، لأمنحها شيئا من عالمي، ولو على عجل.
في تلك اللحظات الصغيرة، بين إشارات المرور وصوت المحرك، أحاول أن أمدّ خيطا بين زمنين، وأتساءل في صمت: هل يصلها شيء من هذا الخيط، أم ينقطع بمجرد أن تغلق باب السيارة وتعود إلى عالمها؟