story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

وعي المواعدة العمياء

ص ص

وأنا أتجوّل بين منصات شبكات التواصل الاجتماعي محاولا تعقب النقاش الدائر في المنطقة العربية منذ نهاية الأسبوع الماضي حول الهجوم النوعي الذي نفّذته إيران شد إسرائيل، استوقفتني، بل رجّتني، تدوينة-صرخة للصديقة رُبى الحلو التي تعرفت عليها في برنامج دولي حول التنظيم الذاتي للصحافة، وهي أستاذة للتواصل في لبنان، ضد موجة السخرية التي هيمنت على نقاشات المجتمعات العربية، في الوقت الذي يتعلّق فيه الأمر بمشهد إن لم يثر الذعر فإنه يحمل على التفكير والتأمل على الأقل.
أعجبني تنبيه الصديقة رُبى إلى أن نشر وترويج الأخبار الزائفة والمضللة، لا يعني مشاركة المعلومات الخاطئة فقط، بل يشمل إمعان بعض المحسوبين على النخبة ومحترفي الصحافة، في إغراق الموضوع في سخرية سمجة، وحصر الموضوع في فكرة “الحدث المسرحي”. وكأي لبناني أو فلسطيني أو سوري خبر الحروب جيّدا، توقظنا رُبى من نشوة الانغماس في التعاطي الساخر هذا، وصرخت في وجوهنا جميعا: الحرب ليست مادة للضحك، والاستخفاف بها يقلل من الوعي بحقائقها المدمرة، بل ويشكل وعيا مشوّها بها.
وترتدي الصديقة ربى قبعة الأستاذة لتسدي لنا نصائح ثمينة، منها الواجب الأخلاقي الذي يقع على كاهل النخبة المثقفة والصحافيين، بعدم المبالغة في التهويل أو الإمعان في التقليل من أهمية الأحداث، خاصة عندما نأخذ راحتنا في “مدّ رجلينا” في حساباتنا وصفحاتنا الشخصية في منصات التواصل الاجتماعي.
كما تذكّرنا ربى بكون الحياد في مواجهة المعاناة والخطر يُعتبر تضليلا أيضا. فلا يمكنك ادعاء التناول المحايد لموضوع يوشك أن يحرق أمما بكاملها، كما أن الحرب لا يمكن أن تكون بأي شكل من الأشكال مادة ترفيهية، بما أنها صناعة للموت وتهديد مباشر للأرواح.
إذا كان هذا هو الحال مع صوت قادم من قلب منطقة لم تعرف طيلة العقود الماضية، وربما قرون، سوى الحروب بمختلف أنواعها، فإن القلق يصبح مضاعفا في منطقتنا المغاربية، التي وإن عاشت خلال القرن الماضي حروب تحرير ومقاومة للاستعمار، إلي جانب العشرية السوداء التي عرفتها الجزائر، إلا أنها لم تعرف الحروب بتلك الكثافة والرهانات الإقليمية والدولية التي عرفها المشرق العربي، خاصة في القرنين الماضيين، مع اشتعال حرب “الثورة العربية” ضد العثمانيين وما تلاها حتى اليوم.
هناك تدوينة قصيرة انتشرت على نطاق واسع في سياق نقاش “المسرحية” الذي هيمن على منصات التواصل الاجتماعي منذ السبت الماضي، تعبّر عن هذا الفرق في العلاقة بالحروب بين المشرق والمغرب، وهي تدوينة تقول ما مفاده أننا محظوظون بالعيش بعيدا عن الشرق الأوسط، لأن أقصى ما يمكن أن يحصل بين المغرب والجزائر هو معركة في ردهات اليونسكو حول أصل طبق الكسكس.
هذا شكل آخر لتزييف الوعي وتسطيح النقاش و”تضبيع” أجيال كاملة في المنطقة، لأن الحرب تبقى حربا، واحتمالاتها قائمة، والنزاعات التي يتم تأجيجها حاليا في منطقة شمال افريقيا تمهّد لتحويلها إلى شرق أوسط جديد، والأسلحة والقنابل ووسائل التدمير التي يحترق بها العراقيون والسوريون واللبنانيون والفلسطينيون اليوم، هي نفسها التي تتدفّق علي مخازن السلاح في مصر وليبيا والمغرب والجزائر…
بالتالي على هذا “الضحك الباسل” أن يتوقّف، وعلى النخب وقادة الرأي الحقيقيين والمسؤولين، أن يفتحوا عيون المجتمعات المحلية على الأخطار والتهديدات التي تقترب منهم، بل وتعتمل في عمق منطقتهم بالفعل، دون أن يحصل لديهم الوعي الكفيل بجعلهم يتجاوزونها ويقللون من انعكاساتها.
وحتى أبقى وفيا لقانون القرب وأكون دقيقا أكثر، فإن وعي المغاربة بالمخاطر المحيطة بهم، القائمة منها والقادمة، وبعلاقتهم بالحرب، من بين ما يقلقني ويخيفني شخصيا.
نحن أمة في حرب منذ استقلالها، أو على الأقل وبشكل عملي منذ خمسين سنة مضت. لدينا جبهة قتال مفتوحة طولها أكثر من ألف كيلومتر، تكلفنا مجهودا حربيا بمعانيه البشرية والاقتصادية، ندفعه بشكل يومي من قوتنا ومن استثماراتنا ومن مستقبلنا، لكننا لا نحمل ذلك الوعي الذي يميّز الأمم المحاربة، أي ذلك التقدير المختلف لوقعها وكلفتها وتداعياتها، وبالتالي الإقدام عليها بإيمان وعزيمة حين تكون ضرورية، لكن بحكمة وحذر أيضا.
هذا النقاش الذي نصادفه في الشارع والمقاهي وجلسات الأسر والأصدقاء، وفي الشبكات الاجتماعية، لا يحمل الأثر المفترض في أمة نظّمت المسيرة الخضراء وحاربت وتحارب في الصحراء وشيّدت الجدار الرملي…
هذا الأخير وحده يكفي لتشكيل وعي مختلف لدى المغربي عن فكرة الحرب وتكتيكاتها وكلفتها، لأنه أكثر من مجرد منشأة دفاعية عسكرية، بل هو تفكير عقلاني وواقعي، وإلا لماذا لم يشيّده المغرب في حدوده الدولية مع كل من موريتانيا والجزائر؟ لماذا فضّل الحسن الثاني ترك منطقة شرق الجدار، هي التي تسمى اليوم المنطقة العازلة، يمكن لمقاتلي البوليساريو التحرك فيها؟ افتحوا كتاب “ذاكرة ملك” لتسمعوا الجواب على لسان الملك الراحل، وطالعوا مذكرات بعض جنرالات الجزائر لتدركوا لماذا امتنع النظام الجزائري عن تنفيذ خطة اقتُرحت عليه للضغط على سلاح المدفعية المغربي كي يبقى في قواعده ناحية ورزازات ويعجز بالتالي عن حماية وحدات الهندسة العسكرية التي كانت تشيّد الجدار.
لو طرحنا السؤال على الوعي السائد بيننا اليوم لقذف في وجهنا كلمة “المسرحية” وانصرف. أما إذا حاولنا استفزازه أكثر وأخبرناه أننا لم نسترجع الصحراء بالمسيرة الخضراء، بل بتحضير طويل وشاق ومكلّف للحرب ولم تكن المسيرة، وهي فكرة عبقرية دون شك، سوى “مَسرحة” تكميلية لعمل معقّد، زاوج بين الجهد العسكري والمناورة الدبلوماسية، فلربما واجهنا هذا الوعي السائد اليوم بفكرة محتوى “المواعدة العمياء” ليبيّن لنا أنه فهم كيف تدبّر أمور السياسة والدبلوماسية والحرب والسلم.
عالمنا اليوم في مخاض، ومنطقتنا مرشّحة بقوة لتشهد العملية القيصرية التي سيولد منها “الراكد” المنتظر، والحرب مشرط حاد، فلا تغرقونا في أخطر أنواع التضليل ووعي المواعدة العمياء.